اخر الاخبار

في المجتمعات التي قطعت شوطا “كبيرا” في مضمار التقدم العلمي والتطور المعرفي والرقي الحضاري، عادة ما تحتفي المؤسسات الثقافية والفكرية في اجتراح أحد مفكريها أو باحثيها (مصطلح) أو (مفهوم) جديد في مضمار العلوم الاجتماعية والإنسانية، كونه لا يعكس فقط مستوى التجريد النظري للخطاب الفكري – الثقافي السائد في المجتمع المعني فحسب، وإنما يعبر عن قدرة صاحب الخطاب على اختزال وتكثيف عمليات التفاعل بين عناصر الظاهرة الاجتماعية قيد البحث، وتقديمها، من ثم، في إطار لغوي معبّر يجمع بين اختصار المعاني ووضوح الدلالات. وعلى الرغم من ان ما يبذله بعض الباحثين والأكاديميين العراقيين من جهود فكرية في دراساتهم وأبحاثهم التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والدينية عن طبيعة المجتمع العراقي، فضلا “عما يستخلصونه من آراء وأفكار وتصورات أثناء تحليلاتهم وتأويلاتهم لما جرى ويجري لجماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية، لاسيما ما يتعلق بتحولات الوعي وانسلاخات الهوية واحتقانات السيكولوجيا التي لا يفتأ هذا المجتمع من الانخراط في أتونها والعيش في أزماتها والاكتواء بلظى صراعاتها. فان تلك الجهود قلما وجدت لها آذان صاغية من لدن الجهات الحكومية المسؤولة عن هذه الميادين والمجالات، فضلا “عن إثارة اهتمام شرائح (النخبة) المفروض بها التعاطي مع تلك الجهود من باب التحليل والتأويل والتفسير لما تنطوي عليه من طروحات واستنتاجات، سواء بالرفض لها والإعراض عنها أو القبول بها والموافقة عليها ، مع الإشارة – بالطبع – الى مسوغات هذا القبول أو ذاك الرفض. ولعل هناك من يعتقد – وهو محق نسبيا”– ان هذه الضروب من التجاهل المتعمد والإهمال المقصود إزاء تلك الجهود، ناجمة بالأساس عن شيوع مظاهر الجهل الفكري والأمية الثقافية والعدمية النقدية بين أغلب عناصر نخبنا المحلية، فضلا عن تزايد ميلها للركون الى المألوف من التصورات والتمثلات والانطباعات كمثابات ومنطلقات، لاسيما وان خصائص المحيط الثقافي الذي تنشط في رحابه وتتغذى من قيمه وتحتكم الى رموزه، ساهم – ويساهم – في تعزيز تلك المظاهر وأضفى عليها هالة من المشروعية المعرفية والقيمية التي ما كان لها الاستمرار لولا تواضع مكونات المجتمع بمختلف تلاوينها على قبولها والاسترشاد بها، هذا بصرف النظر عما تنطوي عليه تلك التواضعات من اختلاف في الوسائل وتباين في الغايات. وفي هذا الإطار، فقد لفت انتباهي – وأنا أطالع ما كتبه أستاذ الانثروبولوجيا في الجامعة المستنصرية، الأكاديمي والباحث (جعفر نجم نصر) على صفحته الفيسبوكية– خلال أحدى مساهماته الفكرية بصدد العلاقة بين خطاب (النخبة) المثقفة من جهة، واستيعاب (العامة) القارئة لذلك الخطاب من جهة أخرى. حيث تضمن مقاله الموسوم

(تجديد الفكر الإسلامي: تجاوزا”لجدلية العامة والنخبة – البحث عن جيل بيني ثالث (فكرة أولية)) استخدامه مصطلح (الجيل البيني) كأداة تحليلية يفسّر من خلالها ويبرر الضرورات السوسيولوجية والابستمولوجية لميلاد (جيل) جديد من الجمهور، يجمع بين علمية ورصانة الخطاب الثقافي لعناصر (النخبة) من جانب، وبين شفافية وواقعية التعبير عما تهجس به معطيات الواقع الاجتماعي لجمهور (العامة) من جانب ثان. بحيث يستطيع هذا (الجيل الثالث) أن يتجاوز عيوب ومثالب خطابات طروحات (النخبة) القديمة وما تنطوي عليه من غموض وتعقيد وتجريد من جهة، ويتمكن، من جهة ثانية، من بلوغ ما تهدف إليه الفكريات الحديثة والمنهجيات النقدية من تغييرات بنيوية وتحولات حضارية، بما يتوائم وطبيعة المجتمع المعني ومستوى وعي مكوناته . ذلك لأننا – كما يستطرد الأستاذ جعفر ((نحتاج الى الجيل الثالث بيني

(عامي/ نخبوي) قريب من شؤون العامة وهمومها وقريب من لغة العلم المتواضعة/الأخلاقية الهادفة)). ولعل هناك من يعتقد ان استخدام هذا المصطلح (الجيل البيني) من قبل الأستاذ (جعفر)، لا يعدو أن يكون مرادفا” لمفهوم (المجايلة) الذي توسع في شرح معانيه وتحليل مضامينه سابقا”المؤرخ العراقي المعروف (سيّار الجميل) عبر مؤلفه الموسوم (المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي). وحيال ذلك نسارع للقول؛ انه وأن يبدو للناظر تقارب دلالات كلا اللفظين في مجال موضوع البحث المطروح، إلاّ ان دراسة متأنية ومتمعنة تظهر ان هناك من الاختلافات والتباينات ما يفضي الى تخطئة تلك النظرة المبتسرة ودحض انطباعاتها القاصرة. حيث تظهر المقارنة المعرفية والمنهجية بين معاني ودلالات كل من (المصطلح) و(المفهوم) آنفي الذكر، الى ان الأخير انتهج خلال البحث والتقصي عن العلاقات والتصورات والمآلات المسار (الجدلي– التفاعلي) بين ميادين التاريخي والثقافي والسوسيولوجي. هذا في حين وقع خيار الأول على المسار(الخطابي– الشعبوي) للكشف عن المقاصد والغايات التي أريد له الاحتكام إليها والبناء عليها والتعبير عنها .

والحقيقة لسنا هنا في وارد المفاضلة بين القيمة المعرفية والمنهجية لكل من (المصطلح) و(المفهوم) في مجال التحليل والتأويل للظواهر الاجتماعية المتوالدة والمتناسلة، بقدر ما أريد (الإشارة) و(الإشادة) الى أهمية الجهود والمساعي التي بذلها الأستاذ (جعفر) في ارتياد مثل هذه المجالات النظرية، التي من شأنها فتح المزيد من آفاق البحث ومداخل الدراسة لكل ما يعانيه المجتمع من احتقانات وانقسامات وكراهيات صراعات، ليس فقط في شؤون السياسة والاقتصاد والدين والتاريخ فحسب، وإنما في قضايا الثقافة والوعي والهوية والسيكولوجيا أيضا”. وفيما يتعلق بتبعات وتداعيات ما تنطوي عليه مثل هذه المصطلحات (الجيل البيني)، فنأمل أن تكون لنا عودة لاستعراضها في مواضيع أخرى لاحقة بإذن الله .    

عرض مقالات: