اخر الاخبار

في شذرات قصيرة يقدمها رولان بارت، على شكل مقتطفات فكرية مرتبة في أبجدية فصول خمسة: الأول: لذة كتابة النص، بتمييزه بين “أنا” الكاتب و“أنا” القارئ، يقارب رولان بارت لذة النص عن طريق بعدين رئيسيين: أحدهما مكتوب والآخر مقروء. ومع ذلك، فهو لا يحدد موضوعًا في مقابل موضوع، أو يضع الكاتب في جانب والقارئ في جانب آخر. الثاني: لذة القراءة التي لا تأتي فقط من فهم معنى النص، ولكن أيضًا من فعل القراءة نفسه. إذ لا يمكن فصل متعة النص عن متعة قراءته. وكما يوحي تشبيه رولان بارت، فإن اكتشاف النص يشبه إلى حد ما اكتشاف الجسد أثناء التعري. يتكشف النص بالتدريج، ويتحرك القارئ وعلى حسب سرعته ووتيرته وكثافته. الثالث: يمكن للنصوص أن تقدم مستويات متعددة من المعنى والتفسير، مما يوفر مصدر لذة لا متناهية للقراء. إحدى الطرق التي يوضح بها بارت الطبيعة متعددة المعاني للنصوص باستكشافه لإعادة القراءة. فهو يرى أنه في كل مرة يعود فيها القارئ إلى نص ما، يجلب إليه مجموعة جديدة من الخبرات والمعارف ووجهات النظر. ونتيجة لذلك، فإن فهمهم للنص يتغير حتمًا، مما يسمح لهم باكتشاف طبقات جديدة من المعنى والتفسير. الرابع: حول تفاعل القارئ مع النص ومشاركته النشطة وارتباطاته الشخصية في اللذة التي يشعر بها عند القراءة، وفقًا لبارت فإن القراءة ليست نشاطًا أحادي الجانب، حيث يكتفي القارئ باستيعاب الكلمات على الصفحة. بل على العكس، إنها تجربة ديناميكية وتفاعلية تتطلب مشاركة القارئ النشطة. الفصل الخامس والأخير: لذة النص، فبعد قراءة النقاط الرئيسية للكتاب، نجد هناك العديد من الخطوات التي يمكننا اتخاذها لدمج أفكاره في حياتنا اليومية. حيث يشدد بارت على أهمية تبني واستكشاف قراءات متعددة للنص. ويقترح أن نتجاوز المفهوم التقليدي للتفسير الخطي الثابت، وأن ننخرط بدلًا من ذلك في التعامل مع النص بشكل لعبي وخلاق.

وفي قراءتنا لهذ الكتاب، وبالاعتماد على قراءة سندرين فاريت أستاذة الادب الحديث في جامعة سيرجي بونتواز الفرنسية، وقراءة كارلو أوسولا، العالم اللغوي والمؤرخ والناقد الأدبي الإيطالي، الذي عمل أستاذاً في الكوليج دو فرانس من عام 2000 إلى عام 2020، نستشف أن اللذة مفهوم غامض. فقد تأخذ أحيانًا معنى اللذة الشديدة، وأحيانًا أخرى قد تكون مناقضة لها. فاللذة، بالمعنى الذي يستخدمها فيه بارت، هي لذة نص اللذة، كما يؤكد ذلك تعريف المؤلف: “تلك التي تشبع، تملأ، تعطي نشوة؛ تلك التي تأتي من الثقافة، ولا تنفصل عنها، وترتبط بممارسة مريحة للقراءة” (ص 25). ونص اللذة أيضاً هو موضوع النقد، الذي  دائمًا ما يكون “تاريخي أو استشرافي” (ص 37)، النص الذي يهم رجال الأدب، بالمعنى التقليدي للمصطلح، أي “عشاق المنطق، والكتاب، وكتّاب الرسائل، واللغويين” (ص 37). إنه النص المكتوب باللغة “التي يتم إنتاجها ونشرها تحت حماية المعرفة” (ص 66)، اللغة المكررة التي تروجها مؤسسات اللغة. إن لغة نص اللذة هي الصورة النمطية، “إنها الكلمة المتكررة، التي تتجاوز كل سحر، وحماسة” (ص 69). وبالتالي، فإن الكتاب مليء بالتحليلات والتأملات المكرسة بالكامل للذة النص. ويتساءل كارلو أوسلولا: “ولكن ماذا يقصد باللذة؟ ما هي اللذة التي يتحدث عنها؟ ما الذي يميز اللذة عن المتعة، وما الذي يفرق بينهما أو يجمع بينهما؟ يتناثر هذا الكتاب بأمثلة أدبية ولغوية وتحليلية ونفسية وفلسفية وبلاغية متناثرة في ثنايا الكتاب لتأكيد لذة النص وعلاقته الجسدية باللغة”.     

في طرحه النظري الجديد هذا فيما يخص النص، يعطي مكان الصدارة لمفهوم اللذة، وهو مفهوم، كما يقول: أهمله الفلاسفة أو حتى رفضوه إلى حد كبير، وفضلوا عليه مفهوم الرغبة. وكذلك يعطي مكان الصدارة للنص، مذكّرًا بأنه يعني “النسيج” وأنه “يعمل من خلال تشابك دائم (...)” (ص 85). وبهذه المقاربة للنص الأدبي، دشّن بارت كتاب “النقد الجديد” (موسوعة لاروس “البنيوية”).

على الرغم من أن كتابه “الكتابة في درجة الصفر”، الذي نُشر عام 1953 كان يحتوي مسبقاً على عناصر من النقد الجديد، إلا أن الخلاف اندلع بالفعل مع نشر كتاب “حول راسين” في عام 1963 - الذي طبق إجراءات التحليل البنيوي على نصوص راسين، كما تقول سندرين فاريت. يتمحور النقاش حول التعارض بين النقد الجديد الذي يفترض “التنظيم الجوهري للنص، والنقد الأكاديمي التقليدي الذي يرى أن السياق الاجتماعي التاريخي وحياة المؤلف هما الضامنان لمعنى العمل” (موسوعة لاروس، “رولان بارت”). علاوةً على ذلك، فإن اللذة بطبيعتها مفاجئة وفريدة من نوعها، بمعنى أنه لا يمكن اختبارها إلا للمرة الأولى. ولهذا السبب، من بين أمور أخرى، فإن اللذة بالنص ليست مضمونة أبداً، إذ لا يوجد ضمان بأن النص سيمنح اللذة في قراءة ثانية. وتجدر الإشارة إلى أن نص اللذة ليس ضمانة للذة أو المتعة، بل قد يكون النص مملًا. ومع ذلك فإن لذة النص لا تتناقض مع نص اللذة، لأن هذه اللذة أو المتعة “ليست بالضرورة من النوع المنتصر والبطولي والعضلي” (ص 32)، بل يمكن أن تكون انجرافًا نابعًا من عدم الامتثال. هذا هو الحال مع نص اللذة، الذي هو “غير قابل للقول، وغير قابل للتغيير” (ص 36).

تقول سندرين فاريت، “يذكّرنا هذا الكتاب لرولان بارت بأنه كعالم سيميولوجي، كان مهتمًا جدًا بتأثيرات اللغة. فالخطاب الأدبي في نظره هو اشتباك قتالي يدور بين المتعة والإمتاع، وغالبًا ما يرتبط هنا بفكرة القتال”. فاللغة، كما يكتب بارت نفسه، هي ما يوقظ: “أنا مهتم باللغة لأنها تؤلمني أو تغويني” (ص 52). وعندما يتحدث عن النص، فهو يراه إنتاجًا لا يعود معناه بعد اكتمال مرحلة الإنتاج، ويعتمد على مؤلفه ويهرب منه في نهاية المطاف. لأن الكتابة هي “خارج المكان”، مثلما هي مخلوق من مخلوقات اللغة عالق في حرب الكلمات. ولكن كما في أي حرب، هناك أحياناً لحظات من الراحة والهدوء تفضي إلى المتعة: “في حرب اللغات، يمكن أن تكون هناك لحظات هادئة، وهذه اللحظات هي النصوص. بين هجمتين من الكلمات، بين أدائين من النظم، تكون متعة النص ممكنة دائمًا” (ص4243). أما اللذة، فغالبًا ما تقع بين مفهوم الفقدان ومفهوم القتال (الثقافي والاجتماعي، اللغوي والأيديولوجي) (سندرين فاريت). إن نص اللذة يزعزع جميع النقاط المرجعية للقارئ إلى حد تحدي علاقته باللغة. يأخذ هذا التأمل في اللغة رولان بارت إلى أراضٍ تكتسب فيها العبارة، بقوة حرفها الكبير، مكانة خاصة وشبه مقدسة. فالكاتب، بصفته “مفكر العبارات”، أي “الشخص الذي يفكر في العبارات”، هو الذي يضمن لها المتانة وكل التألق. وبعد أن أجرى تجربة سرد جميع اللغات المحيطة به، توصل إلى تطوير نظرية متعة الجملة، التي رأى فيها مفارقة ثقافية متناقضة: فهي في آن واحد راسخة بقوة في بنية تراتبية ثابتة ولا نهائية في جميع تركيباتها الممكنة (ساندرين فاريت).

وفي الفصل الخامس، الختامي، يدعو رولان بارت القارئ في كل مقالاته إلى اكتشاف واستكشاف وتذوق كل المتع المرتبطة بقراءة النص وكتابته. فالنص يتشكل ويتحول تحت قلمه، إلى جسد، وإلى مكان للمتعة والاستمتاع، فهو حسي وشهواني، معقد في فهمه والعمل معه كنسيج يمكن نسجه. إنه يستكشف جميع لغاته، ويعيد النظر في أبعاده الفلسفية والثقافية والتحليلية والنفسية والأيديولوجية واللغوية، ويحيل إلى المؤلفين والأعمال التي تدعم أفكاره وتؤكدها.

تقول ساندرين فاريت، إن هذا العمل أصيل في الشكل والمضمون على حد سواء، وهو الآن عمل كلاسيكي من نوعه، ولو كانت هناك جملة واحدة فقط لتلخص كل نكهة نصه، لأمكننا وضع الاقتباس التالي في أعلى الصفحة:“(...) الكتاب يصنع المعنى، والمعنى يصنع الحياة” (ص 51). وهذا يقول كل شيء.

عرض مقالات: