اخر الاخبار

منذ صدور كتاب ( هذا هو طريق 14 تموز) في أواسط ستينات القرن الماضي للمفكر الاقتصادي ابراهيم كبّه، ولغاية اليوم، ما تزال 14 تموز 1958 من أكثر الأحداث المثيرة للجدل في تاريخ العراق حيث الاطاحة بالملكية واعلان النظام الجمهوري ، الأستاذ كبّه يقدم خلاصة تجربته بوصفه وزيراً للاقتصاد خلال العام الأول لثورة تموز، ووزيراً للاصلاح الزراعي خلال النصف الأول من عامها الثاني9 وحتى استقالته في شباط عام 1960، كما يقدم قراءته للوضع السياسي العام الى نهاية الجمهورية الأولى في انقلاب شباط 1963، وتضمن الكتاب  كذلك دفاعه أمام ( محكمة الثورة) بعد اعتقاله من قبل افراد الحرس القومي الذين صادروا بيته واتخذوا منه مقراً لهم.

كان دفاعه مطالعة تاريخية اتسمت بالجرأة والوضوح والصراحة التي عُرف بها، وعدّت لائحة الدفاع مأثرة خالدة في مواجهة جلاديه وما زال الحديث عنها قائماً إلى يومنا هذا.

حين نستعيد ذكرى هذا اليوم بعد سبع وستين عاماً من الحدث، فانما نستحضر طبيعة النظام الملكي ودينامياته الداخلية. زمنياً، كانت البدايات في تأسيس مؤسسات الحكم وأدواته المدنية (دستور، برلمان، حكومة ونظام انتخابي)، وعلى مدى السنوات التالية، فشل النظام الراهن في تحقيق الاصلاح على مختلف المستويات، كانت الديمقراطية شكلية تحمي مصالح أقلية حاكمة سياسياً واقتصادياً، وتشكّل اجماعاً شعبياً وسياسياً بضرورة رحيله، والاطاحة به.

كما تتجسد في ذاكرتنا صبيحة ذلك اليوم والايام التي تلته بكل عنفوانها ومعانيها الوطنية، بأن مرحلة  جديدة قد بدأت، إذ شهد يوم 14 تموز تحولاً ثورياً شعبياً عمّ البلاد جميعها على مدى أيام، كان حدثاً تاريخياً فاصلاً ونقطة تحول في مسيرة الحركة الوطنية العراقية، بعد أن قدّم الشعب وقواه الوطنية وبنكران ذات، التضحيات الجسام في مواجهة الهيمنة الاستعمارية والاحتكارية، والاقطاع، وسياسة الاحلاف العسكرية. وليس هناك أدنى شك في ان الثورة كانت حصيلة شروط موضوعية وذاتية داخل المجتمع العراقي، أي انها نتاج تناقضات النظام الاقتصادي الاجتماعي في العراق،

إذشهد عقد الخمسينات انبثاق جبهة الاتحاد الوطني التي أسهمت في تعبئة الشعب وسائر فئاته المدنية والعسكرية لحدث التغيير في 14 تموز، واستطاعت الثورة في فترة قصيرة تحقيق العديد من المهام : السياسية والاقتصادية والمعاشية، كما حققت مكاسب عديدة للفئات الفقيرة والمتوسطة على مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والسكن. وازدهرت الصحافة، وتشكلت المنظمات والنقابات والجمعيات، ونشطت في مجال الدفاع عن حقوق اعضائها.

وعلى الرغم من الطابع الشعبي الواسع لعملية التغيير، فان الانتفاض المسلح الذي قام بالفعل، اتخذ بالضرورة آنذاك طابعاً مسلحاً، قامت به قطعات الجيش بقيادة بعض الضباط الكبار من تنظيم ( الضباط الأحرار)، وقد أعطى هذا الواقع زمام المبادرة السياسية، وبالتالي السلطة السياسية بيد هؤلاء الضباط الذين انحازوا بحكم عقليتهم ونشأتهم العسكرية وانتماء الغالبية منهم الى الطبقة الوسطى في أخطر قضايا الدولة ومهامها الأساسية، وبحكم هذا الواقع الذي تجاهل دور الشعب واحزابه الوطنية في عملية البناء والتغيير فان هذه العقلية استطاعت أن تحبس الثورة ضمن افقها. وأن تطبع سلطة الدولة الجديدة بطابعها الخاص.

ومما له دلالة خاصة بالنسبة لمسارها اللاحق، انها تشكلت من مختلف اطراف جبهة الاتحاد الوطني، فيما استبعد الحزب الشيوعي من المساهمة في تشكيل الحكومة الجديدة على الرغم من دوره الكبير في الاعداد والتحضير للثورة، وفي تشكيل جبهة الاتحاد الوطني نفسها. لقد كانت هذه علامة مبكرة لنكسة فيما بعد في سلسلة من المواقف سواء من جانب السلطة أو من جانب الاطراف الاخرى، وترتب على ذلك انفراط عقد الحلف الوطني الذي كان استمراره شرطاً اساسياً لتقدم الثورة، وقطع الطريق أمام الحكم الديكتاتوري الفردي. بينما دخلت هذه القوى نفسها في صراع سياسي انتقل الى الشارع العراقي بصيغ مؤسفة.

لم يكن بامكان الثورة أن تسير الى نهاياتها في انجاز مهامها الوطنية، هذا ما توصل اليه ابراهيم كبّه في كتابه (هذا هو طريق 14 تموز)، إذ أشار الى جوانب سلبية عديدة في نظام الحكم الجمهوري الاول، نجملها في النقاط التالية :

*الانفصال التام بين المدنيين والعسكريين في الوزارة، واقتصار عمل الوزراء المدنيين على القضايا المدنية وحدها.

* عدم تشكيل مجلس وطني للثورة، لمنع سيطرة الديكتاتورية العسكرية الفردية، وتحقيق القيادة الجماعية.

* عدم توفر الظروف لاقامة مؤسسات ديمقراطية. وظلت الدعوات في اقامة نظام برلماني، واجراء انتخابات عامة، واقرار الدستور الدائم مجرد وعود لم تتحقق.

* والى جانب تلك الاسباب كانت شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموع خصائصه النفسية والذهنية والسلوكية، قد اسهمت في التفرد بالسلطة، وهي احدى الاسباب في التراجع، وتهيئة الظروف للاجهاز على الثورة ومكتسباتها.

كانت الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية مهمة في جوهرها، إلا أن القيادة كانت أسيرة الاحساس المبالغ فيه بأهمية(الزعامات) الاستثنائية، لتتحول الى دكتاتورية منفصلة عن بوصلة البلد السياسية، وانفراد استبدادي بالسلطة. كان خطأ العسكر الفادح هو ارتيابهم من النظام البرلماني، وايمانهم بقدراتهم (الخارقة)، هذا الذي فتح الباب الى انقلابات عسكرية اخرى، وقاد البلاد الى المصير الذي نحن فيه. هذه البذور بدأت تنمو بشكل خطير مع تردي الاوضاع العامة، حتى آل الوضع فيما بعد إلى الديكتاتورية، وكانت السجون والمعتقلات تكتظ بمئات الشيوعيين واصدقائهم، فضلاً عن المعتقلين الآخرين من قوى سياسية  أخرى، كان هؤلاء يدفعون الى السجون بدعاوى كيدية بتدبير وتشجيع من دوائر الامن والشرطة، التي تلقى التأييد من القوى المناهضة للثورة والمتضررة من اجراءاتها التقدمية. وعلى الرغم من أن اعلان الاحكام العرفية لم يكن سوى تدبيراً استثنائياً لجأت اليه السلطة في الظروف الاستثنائية لحمايتها، الا أنها استمرت طوال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لذا أصبح موضوع انهاء مدة الانتقال ووضع دستور دائم للبلاد  من اهم القضايا الساخنة والمؤجلة التي لم تحسم في ظل تصاعد دور الحاكم العسكري المطلق، خلاف القانون والسلطات المدنية، وغياب القضاء.

ان صراعاً أكيداً كان سينشب، بين القوى السياسية، والذي كان يمكن ان يعالج بصورة سلمية وفي اطار التحالفات الوطنية، لكن ما حصل، هو تجاوز هذه الضرورة والانغمار في صراعات مدمرة، فجرتها القوى التي كانت تدعو الى الوحدة الفورية، والقوى الخارجية التي أججت التوتر، واصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية بدلاً عن المؤسسات البرلمانية، وبؤرة الخصومة إلى أقصى حد لتمزيق الصف الوطني. وهكذا لم يمض إلا أقل من عام واحد، حتى خيمت على البلاد انتكاسة شاملة كانت تزداد عمقاً وحدّة على مرّ الأيام، وكانت النتيجة الاخفاق والفشل في تحقيق المهام الوطنية والاقتصادية.

عرض مقالات: