اخر الاخبار

تتسارع الاحداث في خضم حالة من الفوضى من دون مقدمات تذكر سوى احاديث يسطرها متحدثون بعيدون عن تاريخ العراق او بالاحرى التناسي المتعمد لهذا التاريخ. فلم يكن حدث ثورة 14 تموز1958 مفاجئ طرق باب تاريخ العراق ليسجل أسمه في سجل التاريخ الحديث والمعاصر للعراق ، فهذا الحدث كان ثمرة حياة نصف قرن ، اذا اردنا ان نبعد اربعة قرون من الاحتلال العثماني للعراق. لقد ازدادت فاعلية المؤثرات السياسية والفكرية في نمو فئات قُدر لها أن تلعب ادواراً مختلفة في تلك المرحلة.  كان تأثير إِعلان الحرب العالمية الثانية، وما رافق تلك الحرب من أحداث داخلية كان لها الأثر الأكبر في الحياة العامة للمجتمع العراقي. فثورة 14 تموز 1958 نتيجة للواقع الثقافي والاقتصادي والسياسي العراقي  .فالتاريخ ليس بعيدا لغرض طمس وقائعه فما يزال كثير من العراقيين على قيد الحياة ممن عاصر احداثها أو تداعياتها على المستوى الوطني والقومي.

فما هي اهداف قرار عدم أعتبار ثورة 14 تموز 1958عيداً وطنيا والغاء عطلته الرسمية حيث (أقرَّ مجلس النواب العراقي يوم 22 من أيار 2024 قانوناً جديداً للعطل الرسمية في العراق من دون عد ثورة تموزعيدا رسمياً على الرغم من أن الدستور العراقي النافذ يثبت كون العراق دولة جمهورية) فيهدف هذا القرار محو الأحداث ورموزها الوطنية ضمن النقاط الأتية:

  1. محو ذكرى سنوية كانت ثمرة نشاطات احزاب وصحف وتشكيلات سياسية وطنية وقومية بقيادات عراقية لا يُختلف على ولاءها للعراق . فلا يقتصر هدف محو الذكرى السنوية على الغاء العطلة السنوية وانما تهدف الى الغاء تاريخ وطني يشمل انتفاضات وطنية منها حركة مايس (1941) ووثبة 1948، وانتفاضة 1952. فالهدف محو ذاكرة الثورات والانتفاضات من تاريخ العراق ولاسيما يوم عيد الأستقلال في 14 تموز 1958.فتاريخ العراق كان مشرفاً أزاء الأحتلال البريطاني بشخصيات وتنظيمات وصحف وطنية أزاء الهيمنة البريطانية .
  2. محو تعسف السلطة في العهد الملكي منها على سبيل المثال سياسة المراسيم لعام 1954 الذي يعد عاما حاسما في الحياة السياسية والثقافية فقد ركنت وزارة نوري السعيد الثانية عشرة الى سياسة المراسيم، فاصدرت ستة من المراسيم التي انهت بموجبها الحياة الصحفية والحزبية، فالمرسوم الخاص بالحياة الصحفية رقم (24) لسنة 1954 الذي خول فيه وزير الداخلية الغاء اجازات الصحف والمجلات بموجب المادة (41) التي نصت “ تلغى اجازات الصحف والمجلات كافة الممنوحة بمقتضى قانون المطبوعات رقم (57)لسنة1933 وتعديله رقم (33) لسنة 1934 اعتبارا من تاريخ نفاذ المرسوم، ويشمل الالغاء اجازات الصحف والمجلات المعطلة والمتوقفة عن النشر لاي سبب كان. وعلى وفق هذا المرسوم تم الغاء جميع الصحف الوطنية.
  3. قمع عمل القيادات الوطنية وأظهار نشاطهم الوطني دون هدف يذكر ولاسيما ان هذه القيادات عملت في المجالات الصحفية وقيادة الاحزاب ولها مؤلفات متنوعة في دراسة المجتمع العراقي . فلا يمكن ان نتجاهل مواقف جعفر ابو التمن أو كتب عبد الفتاح ابراهيم في الاختصاصات المختلفة منها (على طريق الهند)، أو مقالات عبد القادر اسماعيل عن جنوب العراق والاهوار أو دور وشجاعة كامل الجادرجي أو حسين جميل أو دور جماعة الأهالي فضلاً عن النتاجات المعرفية والابداعية الأخرى.
  4. شطب التاريخ الوطني لأهم التنظيمات السياسية فلم تشهد حركة سياسية في العراق اضطهادا مثلما تعرضت له جميع أجنحة الحزب الشيوعي على مر تاريخ العهد الملكي، لقد (توجت) سلطة نوري السعيد في وزارته العاشرة هذا الاضطهاد بشنق الزعماء الثلاثة يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، وقد نفذت الاحكام في (14 و15شباط /1949) في ساحات مختلفة في العاصمة بغداد: الشبيبي عند باب المعظم وبسيم عند الباب الشرقي وفهد في ساحة المتحف في الكرخ وشنق ابراهيم صدقي .
  5. نفي العمل الجبهوي للحركة الوطنية العراقية في النشاط الوطني عن طريق توحيد تياراتها ضمن انتخابات مجلس النواب لعام 1954 حيث حصلت (الجبهة الوطنية التي ضمت الاحزاب الوطنية والقومية) على مقاعد في مجلس النواب وقد فاز من مرشحي الجبهة : كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد مهدي كبة وفائق السامرائي وخدوري خدوري وعبد الجبار الجومرد وذو النون ايوب ومحمد حديد ومحمد صديق شنشل ومسعود محمد وجعفر البدر. كذلك قيام (جبهة الاتحاد الوطني) السرية (1957) فقد اوكل الشيوعيون مهمة الاتصال بالقوميين والمستقلين الى الحزب الوطني الديمقراطي ولاسيما عن طريق كامل الجادرجي كما اتصل الشيوعيون بالجماعات الاخرى مثل حزب البعث وحزب الاستقلال وعدد من المستقلين. ويدل هذا العمل على وحدة العمل الوطني على الرغم من الاختلافات الايديولوجية.
  6. نفي نتائج ثورة 14 تموز 1958 على الصعيدين الداخلي والخارجي حيث حررت العراق من دائرة الهيمنة والنفوذ الغربي البريطاني إلى حالة من الاستقلال الوطني ، فأخرجت العراق من حلف بغداد والذي شكلته بريطانيا لمواجهة الكتلة السوفيتية، وضم في عضويته الدول الدائرة في المدار الغربي – البريطاني .كما أخرجت ثورةُ تموز العراقَ من المنطقة الإسترلينية والتبعية للغرب وفتحت الباب واسعاً أمام تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة في البلاد، لعل من أهمها تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الذي فكك المنظومة الإقطاعية الزراعية، وسلسلة التأميمات وعمليات التنمية الاقتصادية والتصنيع الواسعة، واستعادة السيادة الوطنية على الثروة النفطية.وبهذا كان الهدف الغاء تاريخ ثورة تقارن بالثورات الوطنية في العالم حاولت تقويض النفوذ الغربي في العراق ولاسيما في مجال الاقتصاد النفطي والسياسي.

ان الغاء ثورة وطنية من تاريخ شعب وبالتالي العمل على خلق ذاكرة طيعة لما يمكن ان يشكل فيها ، فالعمل على الجانب السايكولوجي (الاجتماعي –الثقافي ) لغرض محو ذاكرة وطنية تجد في تاريخها ما يمكن ان يكون قدوة لها في أعادة القراءة والتمييز لما يتعرض له بلدها من تمزقات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية يكون دافعا للعمل ضد ما يمكن ان يكون بداية الدمار لوطنها ، فكان لابد من استخدام وسائل القوة الناعمة .اذ يعد كتاب (القوة الناعمة .. وسيلة النجاح في السياسة الدولية) لـ (جوزيف ناي) مساعد وزير الدفاع الامريكي ورئيس مجلس المخابرات الوطني منهاج عمل السياسة الخارجية الامريكية التي كانت سائدة في تعاملها مع الدول والتي تم تأطيرها تحت مسمى القوة الناعمة. ان سياسة القوة الناعمة تتمثل بما يأتي:

  1. ان مفهوم القوة الناعمة: هي “القدرة في الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال”فهي تختلف عن القوة الصلبة المكونة من العتاد العسكري والثراء الاقتصادي، واللذان يمكن استخدامهما التهديد بالعقوبات أو الاستمالة بالمساعدات. أن تمتلك كفرد أو منظمة أو دولة قوة ناعمة يعني أن تجعل الآخرين يعجبون بك ويتطلعون إلى ما تقوم به، فيتخذون موقفًا إيجابيًا من القيم و الأفكار الخاصة بك، وبالتالي تتفق رغبتهم مع رغبتك دون أي إلزام، فهي قدرة على التأثير في سلوك الآخرين للقيام بعملٍ يتفق مع ما تريده.
  2. التركيز على قطاعات التعليم والثقافة ( التاريخ والاجتماع والادب والفن ...) و تنظيم المهرجانات الفنية المختلفة من خلال تقوية العلاقة مع مجموعات اجتماعية وهم المثقفون للعمل على تطبيق ( الوسائل الديمقراطية) وابعاد فكرة ان الديمقراطية تحمل (الفساد والجنس والعنف) والتأكيد على ان( الوسائل الديمقراطية) لا تتعارض مع الثقافات المحلية ، وهذا يتطلب وقتاً وتطبيقاً ماهراً حاذقاً لمصادر القوة الأمريكية الناعمة.

فكيف كانت البداية في التهيؤ للعمل على الغاء العيد الوطني لثورة تموز، لقد كانت الخطوات لوسائل القوة الناعمة تتمثل بما يأتي:

  1. عدم التركيز على المنهاج التربوي لتاريخ العراق في المدارس، ولاسيما العهد الملكي لقد كانت مناهج التاريخ في المراحل الدراسية الابتدائية والمتوسطة والثانوية عرضة للحذف والالغاء مع العوارض المفاجئة (من احداث متعددة) التي سادت بعد 9/4/2003 ، وبعدها (وباء كرونا) فعلى مدى قرابة العشرين عاما، لم تتعرض المناهج الأخرى للتقليص كما هو الحال مع مواد الاجتماعيات. فأغلبية الطلبة لا يعرفون طبيعة الحكم في العراق.

  2. سيادة مفاهيم في وسائل التواصل الاجتماعي توحي ان العهد الملكي يمثل عهد ازدهار العراق وانه كان بأمكان العهد الملكي التطور (لولا) ثورة تموز ، واظهار شخصيات العهد الملكي بكل ايجابية و التغاضي عن الجوانب السوداء لهذه الشخصيات مع الأفتقار الى الفكر العلمي لما يطرح ، فهناك عدم تمييز بين العائلة المالكة التي انتهى دورها بموت الملك فيصل الاول وبين الرجالات العثمانية الذين احتلوا المناصب الادارية والعسكرية في العراق بتسميات وطنية علما بأنهم كانوا من الرعيل العثماني العسكري والاداري الذين خدموا في الدولة العثمانية وهذه الشخصيات هي التي زجت العشائر والعسكر في سياسة البلاد، وكُتب تاريخ العراق فصّلت هذا التدخل بشكل رصين. لقد كانت العائلة المالكة تحت سلطة الرجالات العثمانية وحالها لا يختلف عن حال الشعب العراقي فهذه العائلة كانت الواجهة لحكم الرجالات العثمانية ، وعدم التمييز بأن ثورة تموز لم تكن ضد العائلة المالكة بقدر ما كانت ضد سلطة رجالات يتصارعون على السلطة التي تحمل لهم ( المال والسلطان).

  3. اختراق وسائل التواصل بمواقع تبث كل ما يمكن ان يضعف المواطنة العراقية والغريب ان تجد هذه المواقع الدعم من كلا الجنسين (الشباب) الذين تنحصر معرفتهم بما يضخ لهم من أعلام في مدح النظام الملكي والاغرب أنهم يمتدحون نظام الاقطاع دون دراية ويرددون (أقوال وحكم ) نوري السعيد بان الاقطاعي كان يرعى عشيرته بكل حنان وابوة، فهم للأسف يفتقرون الى دراسة تاريخ العراق الملكي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

  4. ان مصطلح (جمهورية العراق ) جاء في المادة الأولى من دستورعام 2005: جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة ، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي ، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق. وهنا يثار سؤال ما هو الحدث الذي جعل من العراق جمهورية اذا تم الغاء مناسبتها؟ فالاجابة التاريخية تصبح خالية المعنى عند انكار الحدث الثوري لها. وعدم تقدير الرمز السيادي التاريخي لهذه المناسبة.

تناقلت وسائل الأعلام المختلفة نشر بيان صدرعن المثقفين العراقيين ، استنكروا فيه قرار الغاء عطلة يوم تأسيس الجمهورية العراقية، فيما اعتبروا القرار تجاوزا على مشاعر الأغلبية من العراقيين .لقد تضمن البيان ان هذا القرار يؤكد على تجريد الدولة العراقية من مقومات وجودها، ومنها تعويم والغاء رموزها السيادية، وتقويض الدولة المدنية، وشرذمتها بخلق كيانات بديلة ذات هويات فرعية ضيقة، وولاءات طائفية وعرقية وقبلية. وقد سبقه تعطيل إقرار مشروع قانون علم الدولة العراقية، ونشيدها الوطني بالمماطلة والتسويف وعندها يصبح العراق بلد بلا علم، ولا نشيد وطني، ولا عيد وطني!. كما اكد البيان تجاهل مشاعر ملايين العراقيين الذين يرون ان قيام الجمهورية حققت الاستقلال للعراق، ووضعت أسس الدولة المدنية، بقرارات أصلاحية داخلية وخارجية. كما حذر البيان من ما يتردد عن وجود قانون لتأسيس مجلس للقبائل والعشائر العراقية، حيث يمثل ردةً تكرس قيم غادرها المجتمع، ويرسخ التمييز بين أبناء الشعب بما يخالف الدستور والقيم المدنية ويمهد لعودة الاقطاع وتقاليده.  وفي الختام طالب البيان البرلمان والحكومة التراجع عن القرار، وتعديل القانون المصادق عليه ليتضمن اعتبار يوم 14 تموز عطلة رسمية وعيدا وطنيا، والعمل على اقرار قوانين رموز الدولة العراقية المدنية المتمثلة بالعلم العراقي، والنشيد الوطني.

 في واقع الأمر تضمن البيان نقاط مهمة لا تشمل قرار الغاء ثورة تموز عيدا وطنياً وانما تضمن البحث عن أسباب عدم اقرار رموز السيادة للجمهورية العراقية ( النشيد الوطني والعلم العراقي) ، كما اشار الى تجاهل المشاعر الوطنية والتضحيات التي كانت السبب في التحرر من السيطرة البريطانية بمختلف صورها. والتنبيه لمشروع قانون لتأسيس مجلس للقبائل والعشائر العراقية الذي يقود الى تفتيت الوحدة المجتمعية. كما تضمن البيان مطالبة بالاهتمام بالرموز السيادية للدولة العراقية. وهنا يثار سؤال بخصوص البحث عن أسباب الأسراع في اقرار قانون العطل الرسمية في ظل ظروف معقدة ومتعددة على أصعدة داخلية وخارجية منها:

  1. المشكلات الأقتصادية وشحة المياه و (التصحر) وارتفاع سعر الدولار ومشكلة الكهرباء (الأزلية) والبطالة ومشكلات المؤسسات الصحية والمناطق الهامشية والمهجرين(النازحين) وأعمار المدن وتسرب الطلبة من المدارس حيث ان نسبة الأمية في تزايد مع انشطار دوام المدارس على (3) وجبات اي يكون معدل الحصة(الدرس) (30) دقيقة بدلا من (45) دقيقة في مدارس متداعية لاتتحمل هذا الضغط من الدوام المستمر وغياب الكتب المدرسية (المناهج).
  2. الأوضاع العربية ولاسيما ما يحدث في غزة والصراع الدولي حول مناطق سيادة يدخل العراق ضمن مناطق النفوذ العالمي ،فضلا عن ما يفرزه من نتائج هذا الصراع من مشكلات داخلية (سياسية واقتصادية) مع كثرة المشاريع الدولية التي تطوق منطقة الشرق الأوسط.
  3. سيطرة وسائل أعلام ومواقع تواصل أجتماعي (مجهولة ومتعددة) على الموضوعات التي تجد صداها في أثارات (طائفية وقومية ومذهبية ودينية وعشائرية) تدور ضمن تفاعلات تجذب قطاعات واسعة من مستخدمي شبكات النت تجد صداها في مناقشات عقيمة ونشر ما في بطون الكتب التراثية- التاريخية من معلومات بطرق مشوة، تستخدم للأثارة فقط .
  4. تجاهل الكفاءات العلمية في تقييم موضوعات القرارات ذات الطبيعة التاريخية التي تخص المجتمع ولاسيما النخبة المثقفة في العراق ، فكان من المفترض دعوة المختصين من مؤرخي العراق دون المفاجأة في اتخاذ القرار والغاء ذكرى ثورية دون سبب مقنع فجميع الثورات تجمع متناقضات كثيرة ولكن جميع الشعوب تعتز بثوراتها الوطنية . لقد تم تجريد أغلبية الشعب العراقي من ذكرى رافقته عقود طويلة لتأتي تصريحات وتقييمات بعيدة عن حقائق الأمور بل هي تصريحات أعلامية مفتعلة.  واخيراً بنا حاجة الى اتخاذ الخطوات القانونية ضمن ما اقره الدستور والقوانين النافذة لإيقاف مثل هذه القرارات لأن بداية القرار تقود الى قرارات أخطر على سلامة وحدة العراق وهذا يقع على عاتق الفئة المثقفة التي قامت بإصدار البيان وعدم جعل هذا البيان يذهب أدراج الرياح.
عرض مقالات: