اخر الاخبار

أغنى الكثيرُ من الفلاسفة الألمان الفكر المعرفي الإنساني عبر العصور المنصرمة بالعديد من الدراسات والبحوث المعمقة، التي أثارت جدلاً ونقاشات ساخنة ليس في ألمانيا فحسب، بل في شتى بقاع المعمورة. وقد أمتاز الفلاسفة الألمان بتعدد مواهبهم وكانوا يَلجون في مواطن شتى، وفي العديد من بحور المعرفة الإنسانية. وقدْ برزت أسماء كثيرة أثرت في المشهد الثقافي العالمي بنتاجاتها المعرفية، كما تنوعت اهتماماتهم في مجال الدراسات والابحاث والعلوم المعرفية. فنرى تارةً يكون الفيلسوف طبيباً، وتارةً أخرى يكون أديباً بارعاً يجيد فن القصة والرواية والمسرحية، وكتابة الشعر وكذلك الخوض في شتى صنوف الأدب التي كانت سائدة في عصره. وقد أسهمت نتاجاتهم بخلق الروح الثقافية المتقدة والباحثة عن معرفة الأشياء ومكنوناتها. حيث نجد: غوته وإبراهام ليسنك وتوماس مان، وهيردر وهيغل ونيتشه.

هؤلاء الفلاسفة والكُتاب العظام الذين تركوا لنا إرثاً إنسانياً كبيراً في شتى مجالات الأدب والفن والفلسفة، لم يقتصر دورهم المعرفي على فترة المعرفة والتنوير، مثل عصر التنوير الألماني، أو العصر الكلاسيكي، بل امتدت كذلك الى العصور الحديثة، حيثُ أسهمت الحداثة المعرفية الألمانية كذلك اسهاماً معرفياً كبيراً.

ومن الفلاسفة الكبار الذين عاشوا حتى وقت قريب الفيلسوف السويسري تيودور ادورنو (1903 -1969)، الذي كان شديد الولع بالموسيقى، عارفاً بأصولها ويحمل ذوقاً رفيعاً في اختيار الألحان والمقطوعات الموسيقية.

كان للشغف الكبير بالموسيقى لدى أدورنو، وحبه العميق لها، ومحاولاتهِ معرفة فلسفة الموسيقى، بل ودراستها بشكلٍ علمي وأكاديمي .. هذا الولع بالموسيقى مكّنهُ من الالتحاق بمعهد (الكونسرفاتور)، حيث درس التأليف الموسيقى كما تعلم العزف على الة البيانو. وكان لدراسة الموسيقى الأثر الكبير في كتاباته الفلسفية التي مكنتهُ من التركيز على أهمية الجمال في تطوير التاريخ والبحث عن الحقيقة.

هاجر أدورنو إلى أمريكا وعمل هنالك مديراً موسيقياً لمركز الابحاث التابع لأذاعه مدينة برنستون، وقد ركزَ تيودور أدورنو في أبحاثه على تحليل المذاهب الثقافية من منطلق نقدي واجتماعي، وكان واحداً من مؤسسي مدرسة فرانكفورت للفلسفة.

أن المتتبع لأعمال تيودور أدورنو يجد أن للموسيقى تأثيراً واضحاً في كتاباته وبالأخص عندما نقرأ نقدهِ لمسالة استهلاك الثقافة وتحويلها من (مصدر معرفة إلى وسيلة لترويج القيم السائدة في المجتمع) وخشيته من أن يقوم المجتمع الصناعي بتحويل الثقافة الحقيقية الى ثقافة استهلاكية.

كما قام أدورنو بالعمل كمستشار موسيقي للروائي والكاتب الألماني الكبير توماس مان وقد كانت لمؤلفات أدورنو الأثر الكبير في نشر الوعي الفلسفي ليس على نطاق ألمانيا حسب، وإنما في شتى بقاع المعمورة وله العديد من الكتب المهمة مثل جدلية (التنوير) الذي صدر في عام 1947 كما ألف كتاب (الشخصية التسلطية) الذي صدر عام 1950 ومن الكتب المهمة التي ألفها أدورنو، كتاب (فلسفة الموسيقى الحديثة)، حيثُ حظي هذا الكتاب باهتمام النقاد والمثقفين بصورة كبيرة.

 أن كل نظرية فكرية تحمل علامات المكان الاجتماعي الذي تنشأُ فيهِ والصور التي وصلت اليها الحضارة المعاصرة هي نتيجة لفلسفة التنوير التي استبعدت الجوانب المختلفة للعقل مثل العقل الخيالي والاسطوري وحصرتها في العقل التقني حتى اصبحت صورة العقل الاستهلاكي هي الصورة المركزية للحضارة الغربية. وكان (كتاب جديلة التنوير) من الكتب الاساسية التي تحمل بين طياتها الفكر الاساسي لفلسفة تيودور ادورنو. وهذا الكتاب ألفه كل من ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، الذي يُعدُ من أشهر رواد النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت الفلسفية، وقد نُشرَ الكتاب لأول مرة في عام 1944.

ويحملُ بين طياتهِ أهم نصوص النظرية النقدية، حيثُ يعالج الكتاب ويشرح الحالة الاجتماعية والسياسية المسؤولة عن فشل عصر التنوير كما تشير مدرسة فرانكفورت. أن كتاب جدلية التنوير وكتاب الشخصية السلطوية (الذي شارك ادورنو في تأليفه أيضاً) وكتاب (الإنسان ذو البعد الواحد)، للكاتب هربرت ماركوزه، عضو مدرسة فرانكفورت، لها الأثر الكبير على مفاهيم الفلسفة، وعلم الاجتماع، وثقافة وسياسة القرن العشرين، وكانت مصدر إلهام لليسار الأوروبي الجديد في ستينات وسبعينيات القرن العشرين.

كما أن كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) مؤلف من عدة أقسام معظمها تدور حول الموضوع الواحد وهو إمكانية خلق عقل جديد يواكب روح الحضارة الحديثة والعصور الحديثة، ولكن هذه المواكبة لا يمكن أن تجري دون نقد لما مضى ولذلك ينصب النقد في معظمه على العقل القديم، أو على العقل الذي أدى في جانب منه إلى تجميد العقل، ويعني العقل كما هو عند هيغل وكما هو كذلك عند الفيلسوف (كانط)، و في الماركسية أيضا. ومن المعروف أن توجهات معظم أساتذة ومفكري ومؤلفي عصر مدرسة النقد التي تسمى بمدرسة فرانكفورت كانوا إلى حد يتفاعلون مع التوجه الماركسي أو المادي بشكل عام، وكانت لهم مثل هذه المنطلقات.

ـــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الادب الألماني الحديث في كلية اللغات- بغداد.

المصدر:

1- (Aesthetic Theory, Aesthetic Theory)

عرض مقالات: