بين السُّلطةِ والثَّقافةِ وشائجُ ؛ تذهبُ من السلطةِ إلى الثقافة ، وترجع من الثقافةِ إلى السلطةِ ، وتعمل ، بنحوٍ ما ، في كلٍ منهما ؛ ولكي نستبينَ تلك الوشائجَ ؛ لا بد أن نتبيّنَ دلالتي “ السلطة “ ، و” الثقافة “ ؛ في النشأة ، وفي سياق التداول .
تدلُّ كلمةُ “ السُّلطة “ ، في أصل نشأتها ، على القهرِ ، وإنفاذِ الأمر ، وتتّصل بها كلمةُ “ السلطان “ بدلالتها على قُدرةِ المَلِك ، وقدرةِ من جُعِل له القهرُ وإنفاذُ الأمر ؛ وكلُّ ذلك إنّما يكون بالغَلَبة والعلوّ . ثمّ صارت تدلُّ ، في تداولها ، على كلِّ هيئةٍ نافذةِ الأمر تدير شأنًا عامًّا ؛ كالسلطة الدينيّة ، والسلطة القضائيّة ، وما أشبه ؛ وأعلاها منزلةً ؛ السلطةُ السياسيّة التي تُمسِك بأزمّة البلدِ وتصرّف شؤونه ، فترجعُ إليها ، بنحوٍ ما ، السُّلُطات الأخرى كلّها ، وتنطبع بطابعها . ويصحبُ السلطةَ الطغيانُ حتّى كأنّه لازم من لوازمها ؛ ما لم يُكفّ !
وتدلّ كلمة “ الثقافة “ على الحِذْق والمهارة ، والإتقان ، وأصلُها في العربيّة من تثقيفِ الرمح ، أي تسويتُه ، وتقويمُه ، ونفي الاعوِجاجِ عنه ، لكي يكونَ صالحًا لما يراد منه . وأصلُها في اللغات الأوربيّة من حراثةِ الأرض ، وتهيئتِها للزراعة ، وجعلِها خيرًا ممّا كانت عليه . وليس بخافٍ أنّ المعنيين يلتقيان على عنصر التهذيب ، والتسوية ، والارتقاء من حال إلى أخرى أحسنَ منها وأقوم . ثمّ انتقلت دلالةُ “ الثقافة “ إلى ما يتّصل بالعقلِ والذوق ، وحسنِ التصرّف ، وطرائق العيش ، وصارت ، كذلك ، تدّل على ما يُصلح الإنسانَ ، ويرتقي به ، ويُعلي من كيانه كالآداب والفنون . وقد سُمّي ، من بعد ، الأدبُ والفنُّ ثقافةً ، وسُمّي المتمرّسُ بهما مثقّفًا ، ثمّ أخذت دلالةُ الثقافة تتّسع ليدخلَ فيها الفكرُ وصناعته ، ومَن يُعنى به . وإذا كان الإنسان قد نشأ موصولًا بالطبيعة ، شبيهًا بغيره من حيوانها فإنّه أخذ يخرج ، بالثقافة ، شيئًا فشيئًا من إسار الطبيعة ، ويصنع كيانه المتّسم بالعقل ، والخُلق ، والذوق ! إنّ الثقافة ، بهذا المعنى ، هي ما يفصل بين الإنسانِ وغيره من الكائنات الحيّةِ ، ويجعله يسمو عليها .
ولقد نشأتِ السلطةُ والثقافة معًا ؛ نشأتا حين نشأ المجتمعُ ؛ وقامت بينهما أوثقُ الوشائج ، فأخذتْ كلٌّ منهما من الأخرى وأعطت ؛ وكلٌّ صاغت صاحبتَها على قدر ما تستطيع !
وإذا كانت “ السلطةُ “ تنشأ بالغَلَبة والقهر ، فإنّها، من أجل أن تبقى ، لا بدّ لها من “ ثقافةِ “ ؛ أي لا بدّ لها ممّا يُزيّن نشأتَها ، ويُخفي عنصرَ القهر فيها ، ويُوهم الناسَ أنّها محكومةٌ بمبدأٍ وشرع ، وأنّ غايتَها المصالحُ العليا . أي لا بد للسلطةِ القائمة على القهر من فكر وفن يُثبّتان أركانَها . ولقد استقرّ عند أصحابها أنّ القوةّ ونفاذَ الأمر ؛ إنّما يكونان بالسيف والكلمة معًا . ومن أجل ذلك سعى صاحبُ الأمرِ أن يُغري الشاعرَ ، والكاتبَ ، وصاحبَ الفكر بأن يكونوا إلى جوار سلطته ؛ وأن تكون أقلامُهم مقرونةً إلى سيفه ؛ حتّى ينفُذَ بهم في نفوسِ الناس وأذهانهم . وكلُّ سلطة إنّما تصنع ثقافتَها التي تسندُها وتمكّن لها ، وتجعل عملَها مشروعًا ! وهي ثقافةٌ ، في جوهرها ، قائمة على التضليل ، وصَرْفِ وعي الناس عمّا هم فيه ممّا ينبغي أن يكون لهم ، وإشغالِهم بأشياء أخرى تريدُها السلطةُ القاهرة ؛ إنّها ثقافةٌ تحفظ الأمرَ القائم ، وتُزيّنه ، وهي شيء من أشياء السلطة !
على أنّ الثقافةَ الحقّ أمرٌ آخر ؛ إذ هي تقوم على الصدقِ والإخلاص ؛ وتتّجه بالنقد إلى ما هو قائم ، وتُبيّن ما فيه من عيوب ، وتقف على عناصر التضليل فيه ، وتردّ أفكارَه إلى أصولها الخفيّة ؛ وتجعلُ الإنسانَ ، في حريته وكرامته ، مدارَها ، وهي ، في ذلك ، تهتدي بالقيم الرفيعةِ الثلاث ؛ الحقِّ والخيرِ والجمالِ ؛ لتزيدَ من الوعي ، ولتدفعَ الظلمَ ، وتعزّزَ كيان الإنسان . إنّ الثقافة الحقّ هي ما يكون مع الإنسانِ يدفعُ عنه غائلةَ السلطة ، ويُبصّره بما تحوك من أحابيل ليستقيم له الوعي .
وقد شهد التاريخُ كلا الضربين ؛ شهِد ثقافةَ السلطةِ القاهرة ، وشهِد الثقافةَ الناقدة ، وشهِد ما بينهما من صراع ! ولقد كان لكلتا الثقافتين من يتصوّرها ، وينطِق بلسانها .
وإذا كانت السلطةُ تميل إلى الثبات ، وتعزّزُ ما هو قائم ، وتنشرُ من الأفكار ما يسند ذلك ؛ فإنّ الثقافة تنظر إلى النقص ، وإلى ما يشوب ، وإلى المخفي ممّا يُضلّ الوعي ، ويصرفه عمّا ينبغي له . إنّ الثقافة ، بوجه من وجوهها ، هي ما يُكفكفُ من غُلَواء السلطة ، وطغيانها ، ويردُّ إلى الناس الثقةَ بأنفسهم .
إنّ من خصيصةِ الثقافةِ الحقّ ؛ أنّها تُعنى بالشأن العام ، وتقف عند قضاياه ، ويكون لها موقف منها ؛ مهتديةً بأحكام العقل ، وبالقيمِ الإنسانيّة الرفيعة ؛ ولا تخضعُ لما تفرضه السلطةُ ، ولا تؤخذ بما تدعو له . إنّ بين السلطةِ ، في أعلى مراتبها ، والثقافةِ ؛ صراعًا ؛ يستعلن مرّةً ، ويتخفّى أخرى ! وهو في كلّ حالاته لا يفتأ قائمًا ! فمن تجلياته أن تبسطَ السلطةُ يدَها على الثقافة وتجعلَها في حوزتها ، ومن تجلياته أن تحجب ما تريد حجبه منها ، وأن تنال أصحابها بالأذى الظاهر أو الخفي ! على أنّ شرف الثقافة كلّه ؛ أن تحتفظ بكيانها القائم على العقل ، وأن تهتدي بقيم الحقّ والخير والجمال ، وأن تكون في جنب الإنسان تنصره ، وتدفع عنه الظلم ، وتُنير الظلمات ...