منذ نهاية الأربعينيات من القرن العشرين أضحت القضية الفلسطينية محوراً مركزياً في متبنيات الصراع العربي – الاسرائيلي بكل تفاصيلها وضمن بنيتها الكلية، وأن الثقافة العربية والانسانية كانت دوماً على تماس في ملامسة ذلك الهم الانساني الكبير الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من تعددية الأنماط الثقافية، الا أن المثقف العربي العضوي لم يكتف بطرق التعبير عن القضية، بل استطاع الانخراط في الكفاح المسلح في صفوف حركات التحرر التي تقف فلسطين في مقدمتها، والانتصار للقضية وتكريس عدالتها في الضمير الانساني قبل انتصارها على أرض الواقع، إذ كانت القصيدة ولوحة الرسام وفرشاته والكاريكاتير والأغنية، وكل أدوات التعبير الفني حاضرة قبل كل الأدوات الأخرى، إذ ما زالت أصوات (محمود درويش، ومظفر النواب، وسميح القاسم، ومارسيل خليفة) مدوية في فضاء حياتنا الثورية وهي تدافع عن الحق المستلب.
وشكلت الثقافة محوراً مهماً من محاور الصراع حيث يتقدم البندقية أحياناً والتي يتحول صاحبها الى (قاطع طريق) من دون أدوات الثقافة والفعل الفكري والجمالي. تلك الأجناس التي تلتحم معاً من أجل ايضاح صورة الثوري المكافح. ولعل الخطاب البصري استطاع مواكبة الحدث بمختلف أزمنته في انتكاساته وانتصاراته والتعبير عن تلك الثورة والأحلام التي يحملها هؤلاء الفنانين وهي تنتصر لقيم الجمال والسلام والأمن والعودة وكل ما يحيط بها من مفاهيم وتطلعات، وانجاز خطاب يلامس جوهر القضية مهما اختلفت الاتجاهات والمدارس في التعبير، ومهما اختلفت الأمكنة الدالة على جغرافية الفنان، الا أنه تمثيلاً يقترب من الفعل الجمعي وقد استندت إليه الأغلبية في مشاركة النضال والدفاع عن الذات الانسانية التي حوصرت في بنية زمكانية محددة ذهبت الى الشتات الذي أصبح وطناً.
وقد التحفت طاقات مسرحية عربية معطف القضية عن طريق كتابة النصوص واخراجها أو تعريب بعض النصوص التي تلتقي في الماهيات الموضوعية، بيد أن التشكيل استطاع أن ينهج الدرب ذاته من دون أدنى اتفاق بين فنانين صاغوا خطاباتهم، التي قد تكون سمتها الطاغية وهو الترميز والتعبير عن تلك الموضوعات، ولايجاد مصاديق عملية على ما تقدم يمكن الاعتماد على عينات تمثل هذا التوجه مثل تجربة النحات الكويتي (سامي محمد) الذي صاغ خطابه الرمزي انطلاقاً من وحي القضية وذلك الصراع ومحاصرة الذات الانسانية بقوالب برونزية مربعة تخترق يد الانسان المحاصر بحثاً عن الخلاص الأبدي في ضوء قوة الإرادة بتحطيمها تلك الحواجز الصلدة والانعتاق الى فضاءات الحياة. وفي الفكرة نفسها حاول الرسام الفلسطيني (سليمان منصور) ورفاقه استلهام معنى القضية الكامن في الكفاح المسلح وصياغته على هيئة خطاب جمالي. واتخذ الفنان الفلسطيني (ناجي العلي) من شخصيته الرئيسة (حنظلة) بوصفها شخصية الفنان الرمزية التي يختفي خلفها في التعبير عن هموم شعبه وخذلان البعض واعلان ما هو خفي منها على صفحات الصحف والمجلات العربية والعالمية، ومثلما كانت (رحلة حنظلة) كانت رحلة العلي أيضاً حين صورها في رسوماته وكتاباته أطاحت رصاصات الغدر الحاضرة على الدوام بهذا الرمز الفني وحاصرت آخرين ساروا على الطريق ذاته.
بيد أن الفن العراقي كان الأكثر حضوراً على مستوى الكم والكيف في التعبير والمواجهة واستلهام الماهيات الكامنة في الثورة وطرائق التعبيرعنها، إذ اتخذ (كاظم حيدر) من واقعة محلية تكمن في (الشهادة والبطولة) عنواناً لمحلمته الخالدة التي مُنع عرضها في بغداد واستقبلتها بيروت سنة 1965 لتثوير فكرة الشهادة وانشطارها للوصول الى مفهومها الانساني العام، حين استطاع تحويل الخاص الى عام يتجاوز حدود الزمان والمكان. ولحق فنانون آخرون بهذا السرب في ضوء طروحاتهم الثورية ورؤيتهم للحياة في صياغات تنطلق من الواقع وتعود إليه لم تتخذ التعبير الواقعي أساساً، بل نزعت الى الرمزية في خطابها العياني بفعل رقابة الأنظمة الشمولية أنذاك والتخفي وراء الرمز من أجل النفاد من سلطة الرقيب، فضلاً عن طاقة الرمز على التعبير والانفتاح الى مرجعياته الاجتماعية. فقد أنجز (شاكر حسن آل سعيد) في بداياته التعبيرية خطابه المُعبر عن قسوة العدو في مذابح (صبرا وشاتيلا) و (تل الزعتر) التي منحها عنواناً للوحاته لتكون وثيقة ادانة ومحاكمة تاريخية لما حدث على هذه الأرض وفي الزمن المُثبت على اللوحة.
وبفعل هذا الحراك والوصول الى موقف موحد انخرط الكثير من الفنانين في هذا الأُسلوب، إذ كانت أعمال (محمود صبري، ومحمد مهر الدين، وفيصل لعيبي، وصلاح جياد، وابراهيم زاير) وآخرين تلتقي عند المسار ذاته المسار الى فعل تضامني أولاً وتحريضي ثانياً من أجل استعادة الحق، فتجلت البطولة في العمل الفدائي الذي تمت صياغته على هيئة خطاب مرئي من خلال أعمال هؤلاء الفنانين بفعل تلك المرجعيات التي تغذى عليها فنهم وجعل منه عنواناً للعلاقة الجدلية بين الانسان والانتماء الى الحقيقة الكامنة في الواقع. وكانت هذه الصياغات مشيرة الى الحدث على الرغم من رمزيتها العالية، بيد أن تأويلات الرمزية والحاقها بمرجعياتها يؤكد هذا الانغماس والانتماء مع الفعل الثوري يدعمه فكر تكرس على مدى الفاعلية الانجازية لهم.
ولم يُنجز هذا الكم الهائل والنوعي في الوقت ذاته لولا المنطق المجموعي الذي يحكم فروع الثقافة العربية وأجناسها الابداعية المتعددة ومقارباتها الاجتماعية والسياسية بفعل منتجي الخطاب الفني والجمالي وتوجهاتهم الفكرية التي تتسم بالثقافة الوطنية أو مماثلتها لوظائف (المثقف العضوي) الذي ينتمي لهموم الناس وتطلعاتهم والتعبير عنها.