اخر الاخبار

قد  نكون مجبرين  للكتابة عن رفاق شيوعيين  لا نستطيع تجاوز سفر نضالهم لأنهم وضعوا لهم بصمات خالدة لا يمكن إغفالها في تاريخهم النضالي الشاق الطويل وتحملوا الويل  إبان الحكومات المتسلطة على رقاب الشعب ولآنهم النموذج الفذ الذي نقتدي به في نضالنا الجماهيري ضد الفساد والمفسدين  والطائفية  من أجل بناء الدولة المدنية  الديمقراطية  وفي التصدي لكل الممارسات الهمجية  بشجاعة واقتدار عاليين، ويشهد لصمودهم العدو قبل الصديق، وهؤلاء الرفاق  هم قدوتنا ونكن لهم  كل الحب والاحترام ولما يتمتعون به  من خصال حميدة  وثقافة عالية  وإدراك  ووعي وطني..  وما يدور حولهم من أحداث كانت لها تأثيرا صارخا في مجرى حياتهم وكأنهم خلقوا من طينة نقية يختلفون عن غيرهم بأخلاقهم الانسانية قل نضيرها، وأحد هؤلاء المربي (موسى غازي السعدون) الذي ولد في قضاء الهندية (قرية شط ملا) كان لها تأثير واضح فيه لآنها تنضح بالبساطة والرقة والطيبة مطرزة بالأنهار والجداول والبساتين وبيوت الطين المحاطة بالقصب وأشجار النخيل المتنوعة.. نشأ وترعرع في كنف أسرة عريقة في المكانة الاجتماعية، فوالده وجده من عائلة ميسورة الحال من شيوخ ربيعة في منطقة الفرات الأوسط معروفة  بدواوينها العامرة  بين ابناء منطقته الريفية التي تستقطب كثيرا من عشاق ومحبي الدواوين ورنة الهاون  وحكايات الليالي والتلذذ باحتساء القهوة العربية وحلاوتها المرة ..فهو ابن الهندية ذات الأصالة والعراقة المتجذرة في مقارعة الاستعمار والاحتلال والاستبداد وطغيان الحكومات المتعاقبة، ابن الهندية الشجاعة التي طالما وقفت ندا قويا ضد الدكتاتوريات البغيضة خلال سنوات الجراد الاصفر والانتفاضة الشعبانية ،وقدمت قوافل من الشهداء الشيوعيين والمغيبين الكثر  على طريق الشهادة والتضحية ، وكان له الدور الكبير في تأسيس أول خلية شيوعية في الهندية  بداية خمسينيات القرن الماضي  تضم رفاقا تربويين مهنيين وكسبة بالإضافة اليه   منهم (الشاعر  محمد عبد الله الهنداوي  والمربي حمودي مزهر مهنا ومحمود الحاج لطيف والمربي علي شنور والتربوي إبراهيم محسن  وطاهر عبد الكريم  المواشي وغني عبد الهادي الظاهر وشهيد سيد حسين الموسوي  و مهدي سيد جودي) هؤلاء لهم مكانة اجتماعية وثقافية ذات تأثير عال في وسط المجتمع الطويرجاوي، تركو لنا وللأجيال القادمة مفخرة وأبلغ صورة للزهد بما هو معنوي. هؤلاء الرفاق الشيوعيون الاوائل ودورهم المتميز في صيانة التنظيم والمبادئ في تلك الظروف القاهرة.. اوضحت عن عمق الفقد لهم والحرص الشديد في أداء مهامهم الحزبية لخدمة الوطن والشعب، حيث كان الفقيد (فنانا ورساما بالفطرة وشاعرا ومسرحيا..  يعمل بصمت). درس وتعلم في مدارس ريف الهندية ثم دار المعلمين في الحلة.. عين معلما في أكثر من مدرسة ريفية ثم في مدارس القضاء (الهندية الاولى)، في طفولته رسم في مخيلته حب الوطن وحقده الصارخ للاحتلال والنظام الملكي العميل، كان هادئا في كل شيء عاشق للألوان والطبيعة الريفية الخلابة والزخارف والفنون الجميلة ورسم اللوحات المتعددة واقامة المعارض المدرسية وممارسة الرياضة بشهادة الكثير ممن تتلمذ على يده وأصبح فنانا ومربيا متعدد المواهب.. يحب مهنته باحترام واقتدار حيث كان يقضي الفرص بين الدروس يتجول في ساحة المدرسة، قريبا من هموم ومعاناة ومشاكل التلاميذ الذين أحبوه واحترموه بما يستحق حيث كانوا يعتبرونه أبا ومربيا وصديقا منهم (السيد مضر وحسام القزويني والدكتور فاضل شنون والاستاذ عادل مهنا وجعفر صاحب وعباس محمود) وغيرهم ممن عاصروه ولاتزال ذكراه محفورة في قلوبهم.  كان يغرس في نفوسهم حب الوطن وكيفية فرض الاحترام بين الناس والمحافظة على سمعتهم خارج المدرسة ومساعدة ذويهم وكيفية الاعتناء بمظهرهم الخارجي.. ومن حرصه الشديد واعتزازه بالأخلاق التربوية، حدثني أحد تلاميذه القدامى بعد أن ذكر أخلاقه وتسامحه مع الكل أنه في أحد الايام وجه الفقيد لوما لأحد التلاميذ أمام زملائه لأنه كان مقصرا في واجبه البيتي، حينها تألم تألما شديدا وحزن لذلك الموقف فما كان منه في اليوم التالي وفي الصف وأمام التلاميذ ذهب إليه وقدم اعتذاره مغلفا بالتسامح والحنان الأبوي لم ير مثله وكأنه هو المقصر.

كان يعمل على أيجاد المناخات التربوية المشوقة وما يستخدمه من أساليب تعليمية مبنية على أسس علمية اجتماعية ديمقراطية وطنية ترفع مستوى التلاميذ الثقافي والعلمي وتغرس في نفوسهم قيم التآخي وحب الوطن والتعاون والمحبة والعمل الجماعي ويجب عليه أن يكون قدوة لتلاميذه من ناحية المظهر والجوهر.. أحدهما يكمل الآخر في الشخصية التربوية الجذابة التي تثير انتباه التلاميذ وتشدهم اليه (فكما يكن المعلم يكن تلميذه) ..كان العراق وشعبه تعصف به رياح الاحتلال والتسلط والمعاهدات الجائرة في العهد الملكي فالحريات منتهكه وحرية الرأي ممنوعة والتعليم متدن ومرتبك والعدالة معدومة والتظاهر السلمي الاحتجاجي ممنوع بين أبناء الشعب الواحد والناس تعيش في بيئة مملوءة بالأوبئة والامراض منتشرة وخاصة في المناطق الريفية وكثرة البطالة وفرص العمل محروم منها أبناء الشعب وهي حق طبيعي لكل أنسان، وكرامته مهدورة التي يجب ان تكون محفوظة ومصانة لا يجوز المساس بها حسب لائحة حقوق الانسان وكان المزاج السياسي  كثير التصدع والخنوع، كل هذه العوامل خلقت نوعا من التذمر والتوتر والهيجان الاجتماعي لدى أبناء الشعب.

ترك الفقيد بصمات كثيرة في نفوس تلامذته وزملائه ومحبيه وهم لا يزالون يستذكرونه خيرا حيث كانوا يعتبرونه أبا ومربيا وصديقا ممن عاصروه حيث لاتزال ذكراه محفورة في قلوبهم.. تطلع إلى افاق واسعة من مراحل حياته وقد ساعده على ذلك استعداده الفطري وتقبله للثقافة المعاصرة ومسيرة الكفاح الشاق الطويل ضد الاحتلال البريطاني التي قادها علماء وشعراء وشيوخ عشائر العراق الغيارى.

كتب مسرحيتين نقديتين يدين ويعري بهما الاحتلال البريطاني والحكومة العميلة بعد اعدام قادتها عام (1949) اعدها إعدادا جيدا وجند لها ممثلين من خيرة أبناء الهندية المعروفين بولائهم للشعب والوطن وهم ( فاضل سلمان الحضيري وحميد عودة الكفري وفاضل شنون واستعان بشاب من الديانة الموسوية  اسمه (الياهو) ( ليمثل دور الفتاة في المسرحيتين) الأولى عن الجامعة العربية والثانية عبارة عن صورة ساخرة للوضع العام العراقي بشكل عام امتزجت بألم المعاناة التي خلفتها سنوات الاحتلال العجاف، (والمسرحية الثانية) التي غير اسمها قبل عرضها بيومين إلى (محنة حمدان وفاشية الإسبان ) خوفا من الجهات الامنية والقمعية المتربصة ..حتى أنه استخدم خزانة الصف كغرفة سجن، وعرضت المسرحيتان على قاعة ثانوية الهندية  ونالتا استحسان أبناء طويريج في وقت يصعب فيه التحدث بهذه اللهجة التي لا تسر الجهات الامنية.. بعدها جراء هذا العمل ولميوله التقدمية في العهد الملكي تعرض الفقيد إلى الاعتقال ومن ثم سحب اليد من الوظيفة ثم الإعادة والنفي في منتصف الخمسينيات إلى (قره تبه ثم إلى ناحية طوز خرماتو) بقي فيها سنتين بعد أن أنيطت المهام الحزبية إلى الرفيق الفقيد (غني عبد الهادي الظاهر) ثم عاد إلى بغداد وهنا استطاع ان يكمل دراسته في دار المعلمين العالية وتخرج منها مدرسا للغة العربية.  كان يتمتع بالهدوء والخيال الواسع محبوبا من جميع زملائه الذين يعملون معه كان يستعرض الأحداث السياسية ومناقشتها أينما حل ويحاول شرحها بطريقة محببة للمنصتين لأنه كان يحمل مبدآ إنسانيا لا يروق لسلطة الاحتلال وعملائه..  لأنه كان يجسد التربية والتعليم في آن واحد...وبعد الانقلاب الدموي الفاشي في شباط الاسود (1963) واغتيال السلطة الوطنية وقادتها شن الفاشست حملة إبادة جماعية قادها الحرس القومي سيء الصيت، وبيان (13) ضد الشيوعيين والتقدميين أدت إلى تصفية قادة الحزب واعتقال الكثير منهم وزجهم  في دهاليز وأقبية قصر النهاية وأماكن كثيرة بضمنها المدارس والملاعب الرياضية  من المناضلين والمناضلات فيها دون محاكمة تذكر وتعرضهم إلى أبشع أنواع التعذيب الوحشي الهمجي ..اعتقل الفقيد مع الآلاف من الرفاق والوطنيين الاحرار وتعرض إلى  الاعتقال والفصل من الوظيفة  ثم الاعادة اليها بعد احداث( 1968).

 (رحل عنا (أبو رعد) في (1/12/2011). وكان حلمه الكبير أن يرى العراق أرضا وشعبا ينعم بالدولة المدنية الديمقراطية الموحدة وبوطن آمن تستظل بظلاله أطياف الشعب العراقي بلا استثناء.. لا وجود للمحاصصة الطائفية ولا للفساد والمفسدين فيها... لاتزال صورتك وذكرياتك تملآ الذاكرة والوجدان يستذكرك كل الخيرين والمحبين الذين يحتاجون إلى حكمة المبدع ورصانة المثقف وصموده في هذه المرحلة العاصفة المضطربة.

عرض مقالات: