اخر الاخبار

تتجاوز أهمية الموارد المائية في العراق غيرها من الموارد الطبيعية بما في ذلك المورد النفطي، لارتباطه بالعديد من القطاعات المهمة الأخرى مثل القطاع الزراعي، والقطاع الصناعي، والقطاع الصحي، وعلاقته الوثيقة بالتنمية المستدامة، حيث يواجه الأمن المائي في العراق منذ فترة ليست بالقصيرة مجموعة تحديات أدت في نهاية الأمر إلى صورة قاتمة للواقع لا تبعث على الاطمئنان والتفاؤل اذا ما بقي الحال على ما هو عليه الآن، مثل زيادة التصحر، و ارتفاع المعدلات العامة لدرجات الحرارة، وتراجع حجم الأراضي الزراعية في العراق، مع خسارة الملايين من الدونمات بسبب الجفاف وما ترتب عليه من ارتفاع نسبة البطالة في البلاد، وكذلك ارتفاع نسبه الملوحة في التربة، بالإضافة إلى تأثير ملف المياه السلبي على الثروة السمكية، وتراجع جودة المياه الصالحة للشرب، لارتفاع مستوى الملوحة في المياه، وخصوصاً في جنوب العراق، والعديد من النتائج الأخرى التي يصعب إدراجها في أسطر قليلة.. ويمكن حصر العوامل والأسباب التي أدت إلى هذا التراجع في ملف المياه لعاملين رئيسيين وهما العوامل الداخلية والعوامل الخارجية وكما يلي:

 اولاً/ العوامل الداخلية والتي يتعلق قسم منها بالسياسات الحكومية المتبعة في إدارتها للملف المائي، والقسم الثاني بالطرق التي يتبعها الفلاح العراقي في عملية الري، وغيرها من العوامل التي يمكن ايجازها بالنقاط التالية:

  • اعتماد القطاع الزراعي في العراق على أساليب قديمة في استخدام المياه مثل خنادق الري او الأنفاق تحت الارض والتي كانت تستخدم لآلاف السنين الماضية في نقل المياه والتي تؤدي إلى خسارة الكثير من المياه بالتبخر أو الجريان.
  • انشغال الحكومات العراقية المتعاقبة بالأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية واعطائها الأولوية، وعدم التفاتها الكامل للازمة المائية المتفاقمة.
  • إن الحكومات المتعاقبة ما بعد ٢٠٠٣ ولغاية الآن صبت جل اهتماماتها في تطوير القطاع النفطي على حساب بقية القطاعات، ما أدى إلى إهمال القطاع الزراعي، وبالتالي تراجع أهمية ملف المياه كأولوية في الاهتمامات الحكومية.
  • الاستيراد المفرط وغير العقلاني للمحاصيل الزراعية من الخارج أدى إلى إهمال الزراعة في الداخل وخلق طبقة اجتماعية وزراعية كسولة تستسهل هذا الطريق على حساب الزراعة والمزارع العراقي.
  • شحة الإمكانات المادية، ونقص الملاكات البشرية والملاكات المتخصصة في إدارة وتنمية الموارد المائية وتنظيم استثمارها، حيث يغلب على هذه الكوادر الطابع الإداري المتحفظ.
  • توقف النمو والتطور والتوسع في حجم المؤسسات المسؤولة عن ملف الموارد المائية بما يتناسب والمسؤولية المتنامية لهذا الملف ومقدار ما يمكن ان يشكله من ضغط على البلاد بالإضافة إلى ضعف التنسيق بين الجهات والمؤسسات المسؤولة.

ثانياً/ العوامل الخارجية، التي تتعلق بتأثير تركيا وإيران وسوريا، والتي يشترك معهم العراق في نسبة كبيرة من موارده المائية، فبالنسبة لنهر دجلة فان (41,5%) من مياهه تنبع من تركيا و(18,8%) من إيران، و(39,7%) تنبع من العراق،

أما نهر الفرات فأن (88%) تنبع من تركيا، و (8,3%) تنبع من سوريا، و(3,7%) تنبع من العراق. ولعل القارئ قد لاحظ مما تقدم أن المشكلة التي تواجه العراق هي أن معظم وارداته المائية تنبع من خارج أرضه، وهذا ما يمنح دول المنبع موقعاً متميزاً وقوة استراتيجية ضاغطة فيما يتعلق باستخدام مياه هذه الأنهار، وعلى هذا الاساس، فان مستقبل البلاد المائي مرتبط بشكل كلي بدول الجوار، حيث منبع مياه نهر دجلة والفرات.

تركيا/ تعد من الدول الغنية بمواردها المائية إلى الدرجة التي توصف بكونها دولة ذات تخمة مائية حيث تقدر مواردها السنوية بنحو 203 مليار/م3 لما تتمتع به تركيا من هطول مطري وثلجي كبير تمد اكثر من 26 نهرا رئيسا في تركيا، يتم تغذية معظمها من داخل تركيا اضافة إلى نحو 9.5 مليار من المياه الجوفية، وعليه يمكن ملاحظة أن السياسة المائية التركية لا تعاني من العوز بل تتعدى الأهداف الاقتصادية إلى أهداف سياسية وأمنية واجتماعية أخرى، فمنذ قيام جمهورية تركيا في بدايات القرن الماضي ركزت القيادة التركية على الاستفادة القصوى من منابع نهري دجلة والفرات في توليد الطاقة الكهربائية والتنمية والزراعة، وتم تتويج ذلك التوجه من خلال خطة مشاريع الري وانتاج الطاقة الهيدروليكية على دجلة والفرات الذي عرف لاحقاً باسم مشروع جنوب شرق الاناضول (GAP) و المتكون من 22 سدا و 19 محطة لتوليد الطاقة منها 14 سدا على نهر الفرات أهمها سد اتاتورك، و 8 سدود على نهر دجلة أهمها سد اليسو. والذي اعتبرته الحكومات التركية المتعاقبة أنه برنامج تنمية اجتماعية واقتصادية يزيد من دخل الفرد في المنطقة بشكل كبير، ويتوقع منه أن يضاعف الناتج المحلي الاجمالي التركي بنسبة كبيرة قد تصل لأربعة اضعاف، بالإضافة لتوفيره فرص عمل لقرابة مليوني شخص، ويعمل بشكل عام على تطوير قطاعات الري والطاقة والبنى التحتية في تركيا، من دون أن تلتفت لما يسببه هذا المشروع الضخم من ضرر لباقي الدول التي تتشارك معها في هذه الأنهار، وتجب الاشارة في هذا الباب أن تركيا لا تعتبر نهري دجلة والفرات من الأنهار المتشاطئة (مشتركة) وانما تعدهما نهرين عابرين للحدود، أي أنها مياه تركية تسير لتعبر حدودها إلى دول اخرى، وهي بذلك اعطت لنفسها حق التصرف الكامل بها وبمناسيبها بغض النظر عن موقف او مصير باقي الدول.

ان مشروع (GAP) يحرم العراق وسوريا من حقوقهم الطبيعية من المياه، التي وهبها الله لهم، فان العراق وعلى مر التاريخ كان يحصل على ما يقارب 30 مليار متر مكعب من مياه الفرات، وقرابة 20 مليار متر مكعب من نهر دجلة، مضافا إلى مياه الروافد التي تصب في نهر دجلة داخل العراق، ليصل إلى ما يقارب 40 مليار متر مكعب، تروى به الأراضي الزراعية في العراق طوال تاريخ الممتد لأكثر من 7000سنة، لكن هذه المناسيب أخذت بالتناقص تدريجيا مع تعقد الحياة وتطور الصناعة لتصل في العام 1990 إلى 42 مليار متر مكعب. وفي الوقت الحاضر وبعد دخول سد اليسو في الخدمة تراجعت مناسيب المياه بحيث وصلت إلى ما يقارب 10 مليارات متر مكعب لنهر دجلة، و12 مليار متر مكعب لنهر الفرات، وبمعدل تناقص مستمر، ويمكن للقارئ الكريم أن يتخيل حجم الكارثة التي تهدد العراق عند النظر إلى هذه الارقام التي تمثل تراجع مناسيب هذه الأنهار في البلاد وخصوصاً إذا ما اخذنا بالاعتبار إن الوطأة سوف تكون أشد على العراق لأنه يعتبر من دول المصب التي تقع في أسفل الأنهر لا في أعلاها. ان خطر مشروع (GAP ) لا يقف عند نقص كمية المياه الواردة إلى العراق وانما يتعدى ذلك إلى تردي نوعية تلك المياه وارتفاع نسب الملوحة، ومن المتوقع ان تتضاعف تلك التأثيرات بعد انجاز المشاريع التي تخطط سوريا انجازها مستقبلاً فبالإضافة إلى الآثار السلبية التي ستطال النشاط الصناعي والزراعي فهناك آثار بيئية وصحية خطيرة جراء تلوث المياه بسبب استخدام المواد الكيماوية في زراعة الأراضي التركية التي ترويها مياه تلك المشاريع والتي يجري تصريفها باتجاه مجرى النهر مرة أخرى وان لهذه النتائج عواقب خطيرة على مجمل نواحي الحياة في حوض النهرين في البلاد وخاصة على الحياة الزراعية منها.

 إيران/ هناك عدة انهار مشتركة بينها وبين العراق، معظمها ينبع من الجبال والمرتفعات الإيرانية ويصب في العراق لتسقي الأراضي العراقية كما كانت دائماً ومنذ آلاف السنين، وقد عمدت الحكومات الإيرانية المتعاقبة على انشاء العديد من المشاريع المائية والتي يمكن تلخيصها بما يلي: -

  • المشاريع المقامة على الأنهار في المنطقة الشمالية والمتمثلة بأنهار وروافد (نهر بناوة سوتة ونهر باني ونهر زرواة ونهر كولة) ومن أهم المشاريع التي اقامتها إيران على هذه الأنهار هي شق ثلاث قنوات لسحب مياه نهر (بناوة سوتة) الذي يغذي الزاب الصغير مما أثر على مياه النهر المذكور.
  • المشاريع المقامة على أنهار المنطقة الوسطى لاسيما منطقة ديالى حيث هناك 11 نهرا و رافدا من أهمها نهر الوند، وقد أقامت إيران على هذا النهر قناتين أثرا بشكل كبير على تدفق مياه نهر الوند داخل الأراضي العراقية.
  • المشاريع المقامة على أنهار المنطقة الجنوبية، لقد قامت إيران بالعديد من المشاريع على الأنهار في هذه المنطقة دون تشاور مع العراق حول الموضوع ومن أهمها المشاريع المقامة عي نهر الكارون الذي يعد الرافد الرئيس لشط العرب وقد اثر ذلك بشكل كبير على كمية المياه المتدفقة إلى شط العرب وتسبب بزيادة نسبة الاملاح في مياهه، كما ان المشاريع المقامة على الأنهر (الطيب ودويريج والكرخة والاعمى) قد اثرت سلباً على المياه المتدفقة داخل الأراضي العراقية.

سوريا/ يتشارك العراق وسوريا بنهري دجلة والفرات وقد القت الخلافات السياسية بظلالها القاتمة واثرت سلباً على عملية تنظيم وتوحيد المواقف السياسية، والتشاور والاستفادة من وحدة الصف، وأدت هذه الخلافات طويلة الأمد على عدم وجود موقف عربي حازم وموحد في مواجهة التغول التركي ومنع استغلالهم للمياه التي هي حق طبيعي لكل الدول المتشاطئة ومنع استفادة طرف على حساب الاطراف الأخرى.

وفي الختام يجب التنويه إلى أن تراجع الواقع المائي في العراق كان أحد استراتيجيات بعض دول الجوار اتجاه العراق بهدف اضعاف الاقتصاد العراقي وتطوير اقتصاداتها على حسابه، فان هذه الدول تسعى لتصريف منتجاتها بشكل عام والزراعية منها على وجه الخصوص من خلال السوق العراقي، مراهنة بذلك على إضعاف القطاع الزراعي في البلاد واغراق السوق العراقي بالسلع والمنتجات الأجنبية، بعدة طرق أهمها التضييق على مجرى نهري دجلة والفرات، ولكن بالمقابل فان العراق يملك فسحة من الحلول والبدائل التي يمكن ان تخرجه من ازمته التي تهدد أمنه المائي، لكنه قد لا يملك عامل الوقت، لذا فأن عليه الاسراع بجملة من الامور ولعل هذا هو الأمل الاخير التي يسبق الكارثة البيئية التي تهدد البلاد إن لم تلتفت الحكومة لملف المياه وبشكل جدي وحقيقي، وأهم هذه الحلول ما يلي.

  1. الاستفادة من مياه شط العرب واقامة محطات تحلية المياه، وإيقاف هدر ما بقي من مناسيب دجلة والفرات.
  2. ايجاد بدائل من المياه الجوفية للإرواء الزراعي، واتباع وسائل الري الحديثة، وهجر الاساليب القديمة والموروثة منذ آلاف السنين.
  3. العمل على إنشاء خزانات استراتيجية للمياه يمكن الاستفادة منها في أوقات الوفرة المائية.
  4. الضغط على الجانب التركي والإيراني لأطلاق مناسيب مياه دجله والفرات، من خلال الاستفادة من حاجة هذه الدول للعراق بما يملكه من ثروات طبيعية وموقع جغرافي وثقل دولي واقليمي.
  5. تطوير البنى التحتية العراقية من خلال العمل على تأسيس شبكات تصريف مياه الامطار والاستفادة منها في تعزيز الخزين المائي للأنهار، بالإضافة إلى دورها في العملية الإروائية.
  6. تكثيف العمل الدبلوماسي، لتوقيع اتفاقية بين العراق وتركيا وبأشراف أممي تبين مفهوم نهري دجلة والفرات ما بين مياه متشاطئة (كما يعتبرها العراق وسوريا) او أنهار عابرة للحدود (كما يعتبرها الاتراك) وفق التعريف الدولي، وتحديد حصة العراق من المياه الإقليمية وضمان حقوق الاجيال القادمة.
  7. تطوير وتدريب الكفاءات العراقية بما يمكنها من إدارة ملف المياه إدارة علمية حديثة تتلاءم مع اهمية هذا الملف بالنسبة لمستقبل البلاد.
  8. العمل على توحيد الجهود والتنسيق الكامل بين المؤسسات الحكومية المعنية بالملف المائي في البلاد.
عرض مقالات: