اخر الاخبار

لم يكن صباح 14 تموز 1958 مجرد انتقال هادئ من ظلمة الليل إلى نور النهار، بل كان صحوة للصواب والخطأ، وانفجارًا للروح، وبداية كرامة كانت تُدفن كل يوم تحت أنقاض الظلم والخيانة. لم تكن الدبابات التي دخلت بغداد مع أول أشعة الشمس مجرد آلات حرب، ولم تكن البنادق التي تهدر على أرصفة العاصمة سوى أصوات جائعين ومحرومين ومنسيين، صرخوا بعد صمت طويل: "كفى!".

لم يكن ذلك الصباح حدثًا عسكريًا جافًا، كما تُوثقه الكتب السياسية الباردة، بل كان صرخة مجتمع يئن تحت وطأة القمع لعقود، ثمرة حامضة لحلم طويل لم ينضج في أرض تعج بالغرباء. كان ذلك الصباح بمثابة بيانٍ بأن العراق لم يعد يتقبل أن يكتب الآخرون مصيره، ولا أن يرسمه ملوكٌ ورؤساءٌ رأوا في العراقيين مجرد أعدادٍ تُقاد، لا بشرًا يُحترمون. كان العراقيون هم من صنعوا تلك اللحظة. لم يكونوا قادةً ولا جنرالاتٍ ولا مؤامرات، بل أناسٌ جاعوا في أوقات الرخاء، وأُذلّوا في قصور الأغنياء، وانتظروا الموت لسنواتٍ طويلة، يعيشون على بقايا وعودٍ زائفة. انبثقت الثورة من بيوتٍ طينية، ومن حقولٍ أنهكها العطش، ومن عيون أمهاتٍ بكين جوعًا أكثر مما بكين موتاهن. لم يكن الضباط الأحرار سوى انعكاسٍ للألم.

أعمق وأصدق من كل الشعارات: ألم الأقدام العارية، والبطون الخاوية، والرغبات التي تُدفن كل صباح مع شروق شمس لا تخصهم.

ذلك النهر الذي جري في عروق الأرض لم يتدفق في عروقهم. رأوا الماء دون أن يلمسوه، والذهب دون أن يمتلك بفخر شيئًا سوى فتات الذل. رأوا سيداتهم يغسلن الملابس بأيدٍ متعبة، والأخرى تحمل دمعةً لا تُمحى. رأوا أطفالهم ينامون على أرصفة الجوع، وفوق رؤوسهم سماءٌ تمطر وعودًا جوفاء لا تُشبع قلبًا ولا تُشبع فمًا.

ما حدث لم يكن حادثًا. لم يكن ثورةً باردةً تُعرّف في الفصول الدراسية. بل كان صرخة روحٍ أنهكها الانتظار. كانت ثورة جوع، ثورة كرامة، ثورة أناسٍ قرروا التعبير عما كتموه في صدورهم لسنوات. لهذا السبب لم يكن البشر بحاجة إلى أوامر أو تعليمات عندما نزلوا إلى الشوارع. انكسر شيء ما في دواخلهم، ولم يعد هناك ما يعيدهم إلى صمتهم القديم.

عندما حُمل عبد الكريم قاسم على أكتافهم، لم يكن ذلك لأنه تحول إلى بطل خارق أو قديس. بل لأنهم وجدوا فيه، في نهاية المطاف، شخصًا مثلهم. رجل لم يأتِ ليحكمهم من خلف جدران القصور، بل ليقول لهم بشجاعة لا تملكها السلطة: "أنتم، أيها البشر البسطاء، تستحقون الحياة". لم يكن عبد الكريم نبيًا ولا معصومًا من الخطأ، لكنه تجرأ على قول ما لم يفعله أحد قبله: أنتم لستم عبيدًا. أنتم مالكو الأرض.

كانت لحظة فرح عابرة ولدت من رحم الحزن. لحظة تتنفس فيها أمة أنفاسها الأخيرة بعد اختناق طويل. لحظة حلم بأن يكون العراق وطنا لجميع أبنائه. ولكن، كما هو الحال دائمًا،

في لحظةٍ تاريخية، تحطم كل شيء: طقوس البلاط، والقصص الملكية، ومآثر الولاء المسرحية. اختفت الألقاب والأوشحة، وارتفعت أصواتٌ لم يُسمح لها بالهمس. أصوات الفلاحين، وجنود المشاة البسطاء، والفتيات، والطلاب، وكل من حلم بأن يكون مواطنًا بدلًا من أن يكون موضوعًا.

جعل الشعب، وحده، يوم 14 تموز عطلة. لم يحتاجوا إلى إذنٍ من سلطةٍ أو توقيع وزير. العطلات الحقيقية لا تُمنح من السماء، بل تولد في أعماق القلوب. لا أحد اليوم، مهما زيّن نفسه بالكلمات أو ارتدى قناع الوطنية، يستطيع أن يُخبر البشر: أن ذلك اليوم لم يكن يستحق الاحتفال. لأن من فقدوا الاتصال بالذاكرة لا يحق لهم إعادة كتابة التاريخ.

المشكلة ليست في تجميل الماضي أو نسج ذكرياتٍ خيالية. المشكلة تكمن في إدراك أن هذه الثورة، التي منحت المرأة حقوقها، والأمل المتعثر، والكرامة للشعب، لم تعد خطيئة، بل شرارة إنسانية حقيقية في زمن قاسٍ. لذا، ما وُلد من رحم الشعب لا يموت. حتى لو اغتالوه بألف مؤامرة، سيبقى حياً لأنه خرج من رحم الألم، لا من دهاليز السياسة.

من أراد دفن 14 تموز، فعليه أولاً دفن ذكراه. عليه أن يُطفئ الحلم الذي لا يزال يطارد أرواح من عاشوا تلك اللحظة. ولكن، هل يُقتل ذاكرة شعب؟ هل يُمحى حلمٌ مكتوبٌ بالدم؟ مستحيل.

دفع العراقيون ثمن تلك اللحظة بدمائهم وأرواحهم، لكنهم لم يندموا. حتى في سنوات الردة والانقلاب على الثورة، ظل الناس يهمسون في زوايا المقاهي، مرددين بألم: "رحمك الله يا كريم". لقد كانت همساتهم البسيطة أكثر وضوحًا من أي شيء مكتوب في الصحف.

التاريخ لا يُكتب بالأكاذيب. بل يُكتب بآلام الأمهات، بدماء الشهداء، بعيون الأطفال الذين رأوا بغداد تُزيّن بالعلم الجديد لأول مرة. من لا يرى الفارق بين زمنٍ سُحقت فيه كرامة الإنسان وزمنٍ تجرأ فيه الناس على الحلم بالحرية، فهو قلبٌ فقد إنسانيته قبل أن يفقد بصيرته. لا يحتاج إلا إلى ذكريات أناسٍ بسطاء شعروا، ولو للحظة، أن حياتهم تستحق أن تُعاش.

ربما تغيّر وجه العراق. ربما تشوّهت الأحلام. ربما امتلأت الشوارع بوجوهٍ مزيفة. لكن الحلم لم يمت. لأن ما يولد من رحم الشعب لا يموت أبدًا. ما دام هناك قلب ينبض بالكرامة، ما دام هناك من يرفض الذل، ستبقى 14 تموز حاضرة، ليس مجرد ذكرى، بل شهادة: الكرامة الممكنة... والحلم لا يموت أبدًا.