اخر الاخبار

تَميز الانسان عن غيره من الكائنات، بصناعة خصوصيات تٌشكل تسامي يَفتخر به، بدأ مع تكوين التجمعات البشرية المتنامية وصولاً الى دويلات المدن وما بعدها من امبراطوريات كبرى، هذهِ الخصوصيات تنامت و تعددت صورها، اذ تعد الاعياد اهمها، بوصفها اشارة الى هويةِ الجماعة وصورةِ افتخارها .

فيما تقدم السرديات التاريخية قراءات لـ(صناعة اعياد ) تناغمت مع الواقع الحياتي بما يَحمل من مراكزِ  قوى وهيمنة لسلطات متنوعة عبر التاريخ، تميزت ب (برجماتية ازلية) بين (كهنة  الدين و السلطات الحاكمة) انطلاقاً من المعبد الى تحولاته التطورية في الاديان المتعددة التي يصل عددها الى الاف منها ما تكنى بالسماوية، هذه العلاقة ذات الصفات(البرجماتية) تنظم المصالح مع (سلطات الحكم الاستبدادي) من الاباطرة و السلاطين و الملوك ودكتاتوريات بعناوين مختلفة، بتناغمية تعتمد تبادل المصالح، وهي مستمرة بلا توقف، الى ان استطاعت صور السلطة باسم المقدس الديني المتنوع  ان تستحوذ على المراكز السياسية، كما هو حال سلطة الكنيسة التي انتهت (بثورة التنوير) التي قادها (مارتن لوثر) .

هذا بأجمعه اسس لأعياد تحقق (نظم تأطير) للجماعات السكانية و الدينية، بامتلاكها مكانة قيمية مفعمة بروحانيات حققت افتخار مجتمعي يناغي (السيكولوجية الاجتماعية ) لتنظم حدود الجماعة . و الامر ضمن سياقات منطق التطور  يتناغم مع طبيعة وعي الانسان التواق الى الفرح و تأمل مستقبل يتخطى وجوده الفيزيائي يحقق به شعور  برفاه دائم .

الا ان المتحولات في الفكر الانساني، ولاسيما ما تتابع منذ القرن الثاني الهجري مع رؤية (المعتزلة ) (بترجيح احكام العقل على النقل و القياس المتزمت بقوانين السلف)، فضلا عن التحديثات التنويرية ذات الطابع الفلسفي بما قدم لها الفيلسوف العربي المسلم (ابن رشد) و (ابن الراوندي) يعد صورة تحدي بدعوات تحررية اساسها (تسامي مركزية الانسان و تمظهر قيم الانسانية) كوجود واقعي دون هيمنة المقدسات الروحية التي يتكئ عليها مستغلون  يلعبون بعقول البسطاء و عواطفهم.

انه حراك تنويري عبر تاريخ طويل، حقق تحولات دراماتيكية من ثورة (مارتن لوثر) مرورا بقراءات

(ايمانؤيل كانت) في مقالته المهمة (ما التنوير) الى ما اسست له (الثورة الفرنسية ) و قراءات (جان جاك روسو)، هذا بأجمعه وضع الانسان خارج هيمنة المقدسات الروحانية الميتافيزيقية، الى ما يؤسسا لشخصيته الوطنية المؤطرة  بانتمائه الوطني، فكانت اعيادا ذات طابع (وطني)، تمركزت في هوية معاصرة تعمل على توحيد الشعوب بمنطق الوطنية الجامعة الرافضة (للعنصرية والعرقية والطائفية) و النظم التقسيمية ذات المنحى التناحري .

وما يتعلق الامر بنا في العراق يتميز  بما يعد ثراءً حضارياً متنوعاً، في احدى صورها أعياد  تمتلك تقدماً حضارياً عبر تاريخ البلد العميق، لكن صورة المكابدات و الالام  من ضواغط قوى استعمارية و استبدادية لم تكن خفية عن المجتمع العراقي عبر عصور تاريخه طويلة، الى ان تفجرت (ثورة 14 تموز)، المتفق عليها من كل القوى الوطنية المنسجمة و المختلفة  بوصفها انتفاضة خلاص من ظلم طال ازمنة متعاقبة ابتداءً من سقوط الدولة العباسية مروراً بالعثمانيين و الاستعمار الانكليزي المختفي وراء السلطة الملكية التي حكمت من عشرينيات القرن الماضي، بإيهام دستوري مخادع . هذه السلطة الملكية انتجت تمايزاً  طبقياً حاداً ومقيتاً يتسم بفقر محدق لشرائح واسعة من الشعب العراقي .

نعم قد تتصف فترة حكم الملوك الثلاث من فيصل الاول الى الثاني ببعض من صفات اقل شدة في الضغط على الشعب من بعض الفترات التي تبعتها، او ما تحقق من بناء ايجابي نسبي، الا ان انسحاق طبقة العمال و الفلاحين و الكسبة تحت وطأة الفقر  والتخلف مع ما رافقتها من ممارسات قمع امر لا يمكن محوه من  الذاكرة  العراقية . الى ان جائت (ثورة 14 من تموز) بوصفها ثورة وطنية اتفقت كل التنوعات الثقافية و القوميات و شرائح المجتمع في انها تمتلك نقاء و اخلاصاً تجاه الشعب العراقي المتنوع، وكأنها صورة توافق نادر  بين القوى و الشرائح المتنوعة بل حتى المتناحرة .

الا ما يعمل عليه الان في الغرف السياسية المعتمدة على (الخطاب الطائفي) بحجج (التمركز الديني) يمحي الانتماء الى الوطن و تغييب الوطنية واشاعة الانتماء الديني بمنطق المذهبية الضيقة، اساسه تأطير  لقيادة جموع موجهة بآفاق ضيقة و محدودة، ليتسنى لهذه القوة الفاسدة ان تستمر في الهيمنة لتخفي السرقات التي وصفت بالكونية او سرقات القرن، و ليبق الشعب في جو من التنازع الطائفي و القومي بل حتى الفئوي، بوسائل وادوات اعتمدت محوا وما هو مشترك و متوافق عليه، اهمه حذف العيد الوطني (14 تموز)  و احلال اعياد تتسم ب (الطائفية واشاعة الاختلاف الطائفي والعرقي) .

بينما العالم المتحضر يتجه نحوا البناء و التصنيع و العمل على تنامي اقتصادي بوسائط العلم والتحضر و بترسيخ التوحد والتوافق و المسامحة و الحب بين كل شرائح المجتمع، و ترك ما يمزق الوحدة الوطنية و الشعبية، ليتوجه الشعب الى البناء و مواكبة التحولات العالمية الكبرى، هذا الذي يحتم على كل مثقف وطني يؤمن بالحرية و التقدم و النمو الحضاري او يعلن بكل ما يمتلك من ادوات ان العيد اوطني الموحد للشعب العراقي (14 توز) عيد وطني لا يمكن محوه و تجاوزه .

عرض مقالات: