اخر الاخبار

شهد تاريخ الإنسانية، وعلى مدى رقعة جغرافية واسعة ثورات عديدة، عكست توق الإنسان إلى الحرية ورفض الظلم والاستغلال والعبودية. وكانت هذه الثورات مدار اهتمام الأدباء والمفكرين؛ فكتبوا عنها، وأحد هؤلاء الكتّاب، المفكر المصري الليبرالي الراحل سلامة موسى (1887-1958) الذي ألّف «كتاب الثورات» وقد صدرت طبعته الأولى عام 1954 وطبعته الثانية 2015 وقد بيّن في هذا الكتاب أسباب الثورات وطرزها، وسرد نماذج عديدة لبعض الثورات قديما وحديثا، مثل ثورة العبيد في روما، وثورة الزنج في البصرة في العصر العباسي، والثورة الفرنسية 1789 والثورة الروسية 1917 وغيرها من الثورات في عدة بلدان. وتوقف سلامة بتفصيل عند الثورات المصرية بدءا من ثورة أحمد عرابي1919 وصولا إلى ثورة 23 تموز 1952.

يوضح موسى أسباب ثورة 1952 فيشير إلى استبداد الملك فاروق وفساده، وإلى فشل ثورة 1919 التي لم تنجح في انتزاع استقلال مصر عن انجلترا، وكانت معاهدة 1936 مع المحتل الإنجليزي سارية المفعول، وكان يجري اعتقال الأحرار وتعطيل الصحف وضرب الحياة النيابية. و»أصبح كل من ينشد العدالة الاجتماعية أو القليل منها بكلمات هزيلة مترددة يعد شيوعيا ويطارد حتى لا يجد لقمة العيش» ص129* وعّمم فاروق الرعب في البلاد في السنوات الأخيرة من توليه العرش، كما عمّم السرقة والجشع بين الكثير من الوزراء وكبار الموظفين «حتى أصبح الكلام عن بؤس الفقراء ضربا من الشيوعية!» وهذه إشارة صريحة من المؤلف إلى نضال الشيوعيين المصريين من أجل العدالة الاجتماعية، ورفضهم للظلم وتوقهم إلى رفع المعاناة المادية والروحية عن شعبهم. ونستدل على هذه المعاناة بمثال من حياة الكاتب نفسه، يكشف التفاوت الطبقي الحاد في البلاد، فقد داخله الخوف بسبب الكتابة، فالنيابة تتساءل عن مقصده  بالقول: « في مصر من يعيش بألف جنيه في اليوم، ومن يعيش بثلاثة قروش، وأحيانا لا يجد حتى هذا المبلغ التافه» ص132* (ملاحظة: الجنيه يساوي 100 قرش) وتكاد بعض الأسباب أن تتماثل مع أسباب ثورة 14 تموز العراقية، فقد كانت البلاد تخضع للنفوذ الإنجليزي، ويطارد الأحرار ويزج بهم في السجون، بل ويعدمون، حيث نفّذ النظام الملكي الإعدام بحق قادة الحزب الشيوعي العراقي، وتصادر حرية الرأي والتعبير، وتعطل الصحف.

وعن دور المثقفين وموقفهم من الثورة يستشهد المؤلف بقول الفيلسوف الفرنسي سارتر «أينما حلّ الظلم فنحن الكتّاب مسؤولون عنه» ص19*ويرى أن مهمة الكاتب أن يعين الشعب على الفهم حتى يستمسك بالمبادئ. ويعلي من قيمة الأدباء بالقول» وربما كان الأدباء أقرب الناس إلى الأنبياء من حيث أن لهم رسالة يؤدونها للخير العام» ص21*وأن أعظم ما يخدم به الأديب نهضة الشعب أو ثورته أن يخلق له الكلمات التي تلهمه الكفاح والحركة والتفاؤل والإنسانية، وفي حديثه عن التنوير في أوربا يستشهد بكتابات فولتير، روسو، ديدرو باعتبارهم مصابيح تنير الظلام في الثورة الفرنسية الكبرى. وقد كان للمثقفين والطليعة الواعية من الشعب العراقي دور مؤثر أيضا في التمهيد لثورة 14 تموز.

وفي معرض تحليل المؤلف لأسباب الثورات، ربما تصبح كلمات المؤلف استشرافا لأوضاع بلدنا أو نبوءة لما يحصل حاليا، حيث تحكم البلاد طبقة طفيلية بيروقراطية، بالقول «إننا نجد على الدوام في تاريخ الثورات أن هناك طبقة تسيطر على المجتمع وتتسلط على الحكم ولكنها غير منتجة؛ وهي لأنها غير منتجة لا تحس المسؤوليات الاجتماعية، فتنحل أخلاقها ويتزعزع تماسكها، وهي تسرف وتبتذخ لأنها تستهلك ولا تنتج» ص15*

رحل موسى عن دنيانا بعد ثلاثة أسابيع من حدوث ثورة 14 تموز، ومن حق هذه الثورة الخالدة أن تـأخذ مكانها في كتاب الثورات. ثورة ظافرة غيّرت نظاما ومجتمعا، وأحدثت أثرا سياسيا هائلا محليا وعالميا. وقد كتبت وما يزال يكتب لحد الآن عشرات الكتب ومئات المقالات والدراسات عنها نظرا لأهميتها ودورها في صنع تاريخ البلاد. ومازال هذا الحدث الجليل يشغل عقول وقلوب الملايين من أبناء الشعب. وستبقى ذكراه ماثلة أبدا في الوجدان.

* أرقام الصفحات من: كتاب الثورات، سلامة موسى، مؤسسة هنداوي، لندن، 2015.

عرض مقالات: