إذا جاز لنا في هذه المقالة ان نعرض ملاحظات سريعة تنبهنا عن العلاقة بين الحزب والتراث، يمكن العرض للملاحظات الآتية: -
إن الملاحظة الاولى تتعلق بعدم محاولة رواد الفكر الاشتراكي التقدمي في العراق إبراز الاتصال والتواصل بين التراث الفكري العربي الاسلامي التقدمي وبين الاشتراكية ولم يحاولوا تسليط الاضواء على الجسور التي تربط التراث بالاشتراكية. إن محاولة ايجاد خيوط الترابط بين الفكر الثوري في الفلسفة العربية الاسلامية وبين الفكر الاشتراكي الحديث مع مراعاة ظروف نشوء كل منهما، لا تعبر عن حقيقة وعن كشف بعض جوانب تاريخنا الغامضة التي طالما سعت الرجعية الداخلية والخارجية لطمسها او تحريفها، ولا تعبر عن الرغبة في الوصول إلى الحقائق التاريخية فحسب بل إنها أيضاً سلاح فكري في يد القوى التقدمية آنذاك لمقارعة الرجعية التي حاولت الإيهام ولا زالت بان التراث العربي الإسلامي بمجمله يقف إلى جانبها ويؤكد نظريتها اي نظرية الاستبعاد والاستغلال والظلم والخنوع ، فالاشتراكية بالنسبة الينا ليست فكراً دخيلاً علينا او مجرد زي عصري مستورد للتباهي الفكري والمزايدة الثورية، إنها في الحقيقة امتداد لأشرف ما في التراث العربي الإسلامي من قيم علمية تجد ارهاصاتها الفكرية عند ابن خلدون وابن الهيثم وابو حيان وابن رشد ، كما تجد ارهاصاتها النضالية في الكثير من الحركات التقدمية. فقد كان العراق مسرحا لانتفاضات متواصلة اكتسبت مدى من العمق والتنظيم مثلته حركة القرامطة في سواد العراق وحركة الزنج في الجنوب. في حين كانت بغداد بدورها مسرحاً لحركات قامت بها العامة ضد تعسف السلطة آنذاك.
وإذا فات رواد الفكر الاشتراكي في العراق ان يستلهموا ما هو تقدمي في التراث الثوري وفي عملية بث الفكر الاشتراكي وتعميق نشاطاتهم الرائدة، فقد أصبح هذا التراث اليوم موضع اهتمام ورعاية كبيرة من قبل القوى والاحزاب الاشتراكية في بلدنا. فقد اعتبر الحزب الشيوعي العراقي (ان في كل ثقافة قومية إلى جانب المحتوى الرجعي المعبر عن افكار الطبقات المستغلة محتوى ديمقراطي يمثل افكار الطبقات الكادحة). كما جاء في وثيقة الحزب المعنونة (الحزب والتراث) ثم دعا الحزب الشيوعي إلى الاهتمام بالتراث من هذه الزاوية موضحا انه يدخل بذلك في صميم ثقافة الشعب الجديدة ولا يمكن الاستغناء عنه بحال من الاحوال. وفي ضوء ذلك كما يؤكد الحزب الشيوعي (يجد الفكر الشيوعي نفسه وهو ينتظم ضمن سلسلة طويلة من التقاليد الثورية للشعب العراقي) فيعود إلى جذور المسألة لإعطاء فكرة موجزة عن مواقع هذا القطاع المهم من تراثنا الثوري. ولما كانت الرجعية تأخذ من التراث أسوأ ما فيه وتتصيد منه ما يدعم مواقعها ومصالحها غير المشروعة ، كما يؤكد الحزب فانه حين ينطلق من اعتبارات مغايرة فيؤكد بالقول (انه يرجع بالتأكيد إلى ما افرزته في هذا المجرى كفاحات الفصائل الكادحة، الفصائل العاملة والمنتجة والفئات التقدمية، التي تشكل أفكارها ميراث البشرية التقدمية على مر العصور) وبهذا يصبح اهتمام الحزب الشيوعي العراقي بالتراث مسألة علاقة عضوية في المقام الاول، ومن هذا المنطلق جاءت المادة الاولى من النظام الداخلي الاول للحزب الشيوعي العراقي لتؤكد بالنص (ان الحزب يعتز بأمجاد شعبنا وبتراثه العريق وتقاليده الثورية ويستمد منها العزم والتصميم في النضال من أجل تعزيز استقلال العراق وتصفية مواقع الاستعمار السياسية والاقتصادية والفكرية في ربوعه).
اما الملاحظة الثانية ... فان المقالة هذه تنبهنا إلى فقدان العلاقة الملموسة بين الفكر والممارسة لدى رواد الفكر الاشتراكي في العراق. فقد راح جميع الرواد بعيدا وعميقا في طرح المفاهيم الاشتراكية في الوقت نفسه الذي فاتهم فيه ضرورة الانتقال من الفكر المجرد إلى التنظيم. وان جاء ذلك بعض الشيء عن نقص إدراك لضرورة هذا الانتقال والربط بين الفكر والممارسة لدى الرواد فان كل شي جاء نتيجة الوضع الاقتصادي الاجتماعي غير المتطور والذي لم يصل بعد آنذاك إلى مستوى ترتفع الطبقة العاملة العراقية لتجعل من الاشتراكية صلب معرفتها العقلية. ولكن وبفضل التطور النسبي لمعالم الحياة الاقتصادية الاجتماعية في العراق تجاوز الفكر الاشتراكي رويدا رويدا هذا الإشكال بل لم يعد يبقى الرواد، وبالذات الشيوعيين العراقيين وحدهم في ميدان طرح المفاهيم والمواقف الاشتراكية. فقد أسهمت الأحزاب اليسارية والوطنية التقدمية في بث المفاهيم الاشتراكية كل حسب مواقعة الاجتماعية ووعيه الفكري ويبدو ذلك واضحا في صحف (حزب الشعب) الذي عرف مؤسسوه بانتمائهم الفكري إلى الماركسية، وقد وضع هذا الحزب لنفسه برنامجا يتفق وطبيعة المرحلة النضالية. ومن الاحزاب التي ساهمت صحافتها وأديباتها في بث الوعي الاشتراكي ووضعت أساسا للاشتراكية في برامجها وسياستها حزب الاتحاد الوطني صنو حزب الشعب والحزب الوطني الديمقراطي إلى حد ما.
اما الملاحظة الثالثة والاخيرة ...فهي صيحة استنفار. فليست هذه المقالة نهاية ... بل بداية، فثمة طابور طويل من طلائع الفكر الاشتراكي في العراق لايزال ينتظر الدراسة الأعمق... طابور من مفكرين وكتابات مطوية خلف تجاهل متعمد وخوف موروث وصعوبات لا تزول إلا بجهد جماعي ورعاية رسمية. فالجهد الفردي قاصر مهما بذل صاحبه، عاجز عن ان يلم بكل شي. ان تاريخ الفكر الاشتراكي في العراق طويل ... طويل، بحاجة إلى دراسته وتقديمه واستخلاص الدروس منه إلى جهد جماعي بإمكانه المطاردة بحثا عن المعلومات والمصادر والكتابات وخاصة المعلومات المطلوبة في الوثائق السرية الرسمية. مع ملاحظة ان الشيوعي العراقي اليوم ينبغي إلا يكتفي بانتمائه إلى تراث عراقيته القومية المتنوعة والدينية المتنوعة فحسب بل عليه أن يثبت ولاءه لهذا التراث الثوري ليقطع الطريق أمام من يستحضر الموروث التاريخي لكي يعيش فيه ويعتاش عليه.