اخر الاخبار

تتفشى ظاهرة الافلات من العقاب في الدول المضطربة حاملة معها انتهاكات للحقوق والحريات فضلا عن الاثار المدمرة التي تنعكس سلبا على استقرار المجتمع وامنه واقتصاده، الامر الذي كان محلا لاهتمام فقهاء وشرّاح القانون الجنائي، باحثين في اسبابه ونوازعه وآثاره بغية وضع الحلول اللازمة للتصدي له.

 وبادىء ذي بدء وضعوا تعريفات له فقالوا أنه «اخفاق الرادع القانوني في التحقق على ارض الواقع «، او هو «استثناء بعض الافراد او المؤسسات او الكيانات من القابلية للمحاسبة امام القانون». اما المعجم الفرنسي فقد عرفه بأنه «غياب العقوبة او الجزاء الجنائي عند خرق او انتهاك قاعدة من قواعد القانون الجنائي»، بينما عرفته لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة بأنه «عدم التمكن قانونا او فعلا من مساءلة مرتكبي الانتهاكات - برفع دعاوى جنائية مدنية او ادارية او تاديبية – نظرا الى عدم خضوعهم لاي تحقيق يسمح بتوجيه التهمة اليهم اوتوقيفهم ومحاكمتهم والحكم عليهم». 

ونظرا الى ما تقدم فقد تمكن فقهاء وشارحو القانون الجنائي من الوقوف على الاسباب المفضية الى هذه الظاهرة، والتي نلخصها بالآتي:

  • اولا – تراخي مرحلة العدالة الانتقالية – حيث يطمح الكثير من القوى السياسية الى التعامل مع مرحلة العدالة الانتقالية بإيجابية بغية ادراك الاستقرار السياسي، خاصة وانها تغادر الانظمة الدكتاتورية او التوتاليتارية المنتهكة للحقوق والمعطلة للتنمية، او حتى تلك الدول التي تمر بازمات اقتصادية او سياسية وتكون بحاجة ماسة للمرور في مرحلة العدالة الانتقالية من اجل التأسيس للنظام الديمقراطي المطلوب.

حيث يلاحظ في أحيان عديدة ان هذه المرحلة ينتابها التراخي والخدر المؤديان الى الحيلولة دون استكمال البنى المؤسسة للدولة، بعد ان تكون قد استغنت عن البنى التي كانت الانظمة السابقة قد اعتمدتها. وهذا التراخي يفضي الى اثار سلبية عدة لعل اهمها هو تلكؤ نظم العدالة في الايفاء بالتزاماتها تجاه طالبيها، بسبب غياب احكام الردع القانوني بشقيه العام والخاص. حيث تولد وتنمو وتترعرع وتستمكن ظاهرةالافلات من العقاب، التي تعد البيئة المتراخية حاضنتها الامينة، القادرة على تمكينها من تلبية طموحاتها والحامية لنشاطها ونوازعه وامتداد اذرعه للعديد من تشكيلات الدولة.

  • ثانيا – مغادرة الهوية الوطنية والتمسك بالهوية الجزئية - في بعض البلدان المغادرة حديثا للنظم المستبدة تبرز تنظيمات سياسية بديلة بخاصة تلك التي ( يتلبسها هاجس المظلومية ) والنازعة نحو تسنم زمام القيادة للمرحلة القادمة. اذ يدفعها الشعور بالمظلومية الى الاعتكاف في هويتها الجزئية، بخاصة اذا كان الظلم قد حل بسببها ، سواء كانت تلك الهوية دينية ، طائفية ، قومية ، جهوية ، او اية هوية اخرى. فهي جميعا تهدف الى مغادرة هوية المواطنة لفشل مفهوم الولاء للوطن، وفي هذه الحالة يتم توظيف الهوية الجزئية من اجل المصالح والمنافع. ولما كانت المصالح والمنافع متقاطعة مع مصالح ومنافع الآخرين، ففي هذه اللحظة تبدأ المناقشات والمفاوضات والمساومات التي تفضي قطعا الى اتفاقات ترتضيها الاطراف المتفاوضة، لترتقي بها الى نهج يسمى «المحاصصة».

وحسب توصيف المحاصصة والبناء المؤسسي لها وكأثر من آثارها، فانها تؤدي حتما الى انتهاك القواعد القانونية العقابية. وبغية تعقب هذه الانتهاكات فلا بد من وجود مشتكي ومشتكى عليه (مدعي ومدعى عليه)، وهنا يأتي الدور الريادي للمحاصصة المتمثل في تعزيز موضوع حل الخلافات بين ممثلي الهويات الجزئية بعيدا عن انظمة العدالة، اذ تتمكن المحاصصة من تغييب الدعوى او حتى التفكير فيها، لكون هذا التفكير او حضورها يحرم طرفي المحاصصة من مكتسباتها ويثبط العزيمة الذاهبة الى المزيد من المكاسب.

وهنا يجري التأسيس للافلات من العقاب.

  • ثالثا – عدم المساواة امام القانون وسيادة القانون – الافلات من العقاب يعني عدم المساواة امام القانون بخاصة في النفوذ، فبعض الافراد والتشكيلات تتمتع بنفوذ لا يتمتع به الفرد العادي بسبب قوة السلطة او الثروة او الانتماء للهوية الجزئية او الانتماء الى التشكيلات المسلحة، وبذلك يكون استغلال النفوذ مدخلا للافلات من العقاب، او بعبارة اخرى غياب الحق او الفعل الذي يرتب المسؤولية الجزائية لمنتهكي القواعد القانونية، ويسهل لهم سبيل الفرار من اي تحقيق يضعهم في محل اتهام، او ان يتم التحقيق معهم، فهو يوقف ذلك وبمبررات شتى، للحيلولة دون صدور حكم قضائي بحقهم على الرغم من ثبوت الضرر ومعرفة الفاعل.

وهذا يعني ان حكم القانون معطل بسبب غياب تام لسيادة القانون. ويقصد بسيادة القانون حسب تعريف الامم المتحدة انه «خضوع الاشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة بما في ذلك الدولة لحكم القانون بشكل متساو )، اي ان الافراد والاشخاص بما في ذلك الدولة يخضعون للمساءلة والمحاسبة وتطبق بحقهم القوانين بشكل متساو. وعلى هذا الفهم لسيادة القانون تم تعريف الافلات من العقاب بأنه «استثناء بعض الافراد او المؤسسات او الكيانات من القابلية للمحاسبة امام القانون».

والنتيجة التي يمكن الخروج بها من هذا التعريف هي ان الافلات من العقاب يعد نقضا لسيادة القانون.

  • رابعا - القوانين المشرعنة للافلات من العقاب - ويقصد به الافلات المؤسس بموجب القوانين، اي ان النص القانوني شُرّع لحماية بعض الاشخاص او مجموعة من الاشخاص من التحقيق او التعقيبات القضائية ولا تطاله العقوبة عن فعله الاجرامي، فالفاعل يعمل في ساحة المباح لكون عمله لا يرتب عليه اية مسؤولية جنائية للفاعل، وهذا يعني ان النص القانوني يمكّن الفاعل من الفرار من العقوبة ولا يضعه محل اتهام، لا بل انه يوقف تنفيذ حكم الادانة اذا كان قد صدر حكم بحقه رغم ثبوت الضرر وحضور الفاعل.

وكمثال لهذا النوع من الافلات من العقاب نذكر قوانين العفو العام غير المستوفية لاسبابها القانونية في المرحلة الانتقالية. والتوسع في منح الحصانة لسبب قانوني او من دونه، اذ ان المتهمين يلتحفون هذه القوانين التي تعد مسارا قانونيا للافلات من العقاب. اضافة الى حكم المادة 398 من قانون العقوبات، التي توقف تحريك الدعوى والتحقيق فيها، او توقف تنفيذ الحكم بحق الجاني مرتكب جريمة اغتصاب انثى اذا عقد على المغتصبة عقد زواج صحيح. فابرام عقد زواج صحيح مع المغتصبة يمكّن الجاني من الافلات من العقاب وبحكم القانون، علما بان العقوبة الاصلية لهذه الجريمة على وفق احكام المادة (393) قد تصل الى السجن المؤبد. فضلا عن المادة 41 من القانون ذاته والمتعلقة بتأديب الزوجة، التي تم تأويلها قضائيا الى ضرب الزوجة، وغير ذلك من فيض النصوص في القوانين الاخرى المشرعنة للافلات من العقاب، التي لا يتسع مجالنا المحدود هنا لذكرها.

  • خامسا – تعطيل مبدأ الفصل بين السلطات – الفصل بين السلطات، المبدأ الذي جاءنا ارثا من مونتسيكيو المسطر في كتابه (روح الشرائع ) الذي ميز بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والذي يعني تعدد السلطات في الدولة، واستقرت احكامه في الغالب من دساتير العالم بما في ذلك دستورنا لسنة 2005 ( المادة 47 منه).الا ان هذا الفصل بين السلطات يُنتهك في العديد من دول العالم ولاسباب لا تخفى على اللبيب مما يخل بالوظائف المناطة بتلك السلطات، او كحد ادنى يؤدي الى التداخل في تلك السلطات ويفضي الى انتهاك ذلك المبدأ الذي رسمته الدساتير، ويعد تحديا لمقاصد المشرع الدستوري ويسهل امر السلطات بالسطو على صلاحيات ووظائف بعضها البعض، وهو ما يفضي كما يقول مونتسيكيو الى «طغيان احداها على الأخرى». وينعكس هذا سلبا وتنعكس آثاره قطعا وبشكل سلبي على اداء الدولة وبرامجها وخططها وامكاناتها في حفظ الامن، ما يؤدي الى النيل من حريات وحقوق المواطنين باعتبارهم الاكثر ضررا جراء ذلك الانتهاك. ولنا ان نلاحظ ان التدخل في شؤون العدالة، المتعلق بالسلطة القضائية من قبل السلطات الأخرى، يعد سبيلا للافلات من العقاب.
  • سادسا – المؤسسة القضائية واستقلال القضاء – عندما يختل استقلال السلطة القضائية فان ذلك يعني عدم امكانية قيام المؤسسة القضائية بالدور المرسوم لها قانونا في تحقيق العدالة، والمتمثل في حسم النزاعات على وفق احكام سيادة القانون من خلال تطبيق القانون وتنفيذه في مواجهة الانتهاكات المتعمدة للقواعد القانونية. وأحد الاسباب المفضية الى تلك الانتهاكات هو غياب استقلال القضاء، والاستقلال يعد حقا من حقوق الانسان وليس مجرد صفة او ميزة تضاف الى هيبة القضاء ووقاره. حيث نص الاعلان العالمي لحقوق الانسان على حق كل انسان في «ان تنظر قضيته من قبل محكمة مستقلة».

 ويختل استقلال القضاء عندما تتدخل المصالح والمنافع من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية او من قبل الاحزاب السياسية او الشخصيات النافذة في الشأن القضائي، اذا يعد ذلك التدخل انتهاكا للمبدأ القائل ان «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لاية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة». والنجاعة للسلطة القضائية لا تقتصر على الاستقلال بل تستلزم شروطا اخرى يجب ان تتحقق في القاضي، وهي الحيدة والنزاهة والسمو الى اخلاق المهنة والاختصاص والقدرة على الاجتهاد، وان تترسخ القناعة لديه بانه سلطة وليس موظفا في الدولة.

  • سابعا – ان تكون الاحكام القضائية حائزة على الجودة – وللصلة ذاتها بموضوع السلطة القضائية في الفقرة اعلاه فان الاحكام القضائية يجب ان تكون جيدة. والحكم القضائي الجيد يقصد به «توفر الصفات والخصائص والسمات والمبادىء التي يتضمنها الحكم القضائي عندما يكون صحيحا من الناحية الشكلية ومطابقا للحقيقة من الناحية الموضوعية، وملبيا للعدالة لطالبيها من الاشخاص عند اللجوء للقضاء». وان االتوصل الى الحكم القضائي الجيد لا بد ان يمر بالصفات والخصائص والسمات والمبادىء المطلوبة لذلك، ومنها كيفية تكوين القضاة، ولزوم الاستقلال والحيدة المطلوبتين ، فضلا عن المحاكمة العادلة والابتعاد عن الاجتهادات الفضفاضة المتعلقة بالاعذار القانونية والظروف القضائية المخففة، التي تمكن الفاعل من الافلات من العقاب لكبر سنه او لصغر سنه على سبيل المثال، وتسبيب الاحكام ، وامكانية القاضي الجيد في اصدار حكم جيد ولو كان النص التشريعي سيئا، وغير ذلك. وبعكسه فان الاحكام القضائية غير الحائزة على الجودة القضائية المطلوبة تعد وسيلة من وسائل الافلات من العقاب، لانها تسهل الهروب من الانتهاكات المتعمدة للقواعد القانونية، وتمكن الفاعل من النجاح في الافلات من سلطة القانون، فضلا عن كونها تجانب العدالة.
  • ثامنا – التراخي وطول المدد التحقيقية – ان البعض من الاجراءات التحقيقية التي يقوم بها قضاة التحقيق يشوبها التراخي المفضي الى طول المدد التي يستغرقها التحقيق والمتسمة بالبطء. اذ كثيرا ما يفضي التراخي في هذا الموضوع الى هدر الحقوق والحيلولة دون تحقيقها لطالبيها المصابين بالإحباط، وتجعل الجاني مسترخيا ما دام التحقيق لم يصل الى مراحله النهائية، او لقناعته ان المرحلة النهائية لن تملك الحضور ولو بعد حين، الامر الذي يجعل القناعة بنظام العدالة يهتز ويكون مطلوبا منه البحث عن سبل اخرى خارج المؤسسة القضائية لا بل خارج انظمة الدولة، وغالبا ما تدفعه الى البحث عن وسائل اخرى بديلة، وتكون هذه الوسائل التي يقع في شراكها بدائية كالعشيرة واحكام الصنف في المهن ومختار المحلة ورجل الدين وسواهم من السبل الاخرى ، هذا التراخي لا ينحاز الى الضحية بقدر ما يوفر الاسباب المفضية الى النجاح في الافلات من العقاب وبذلك تكون اجراءات التراخي في التحقيق قد فرطت بالضحية ورسمت الابتعاد عن نيل العدالة وساهمت في الافلات من العقاب.
  • تاسعا – غياب المساءلة والمحاسبة والرقابة – تعد المساءلة فاعلة كأساس لتحقيق الحاكمية الصالحة، كما ان المحاسبة هي عدم افلات المنتهك لاحكام القانون من العقاب، والرقابة تعني الرقابة الادارية والمالية. الا ان الملاحظ ان التساهل والتراخي من قبل سلطات الدولة عن اداء ادوارها المكلفة بها قانونا، يتسبب في اضمحلال الدور الرقابي للسلطة التشريعية وتهميش المساءلة والمحاسبة من قبل السلطة القضائية في الدول المضطربة. وتعمل القوى الامنية والعسكرية في خدمة السياسي المتنفذ وليس في خدمة الدولة، وتصدر التشريعات على مقاسات الافراد، فيرتبك الوضع في الدولة وتتفشى الظواهر السلبية فيها كالبطالة، ويكثر المهمشون وتتلكأ مشاريع التنمية المستدامة ويهبط مستوى الدولة الى درجات متدنية قياسا بالدول الأخرى، ويعم التذمر لدى الغالب من الناس ويستشري الفساد والمحسوبية ويهبط المستوى الصحي للمواطنين وتقيد الحريات وتكمم الافواه، و بذلك تتشكل البيئة الصالحة والمثالية لتفشي ظاهرة الافلات من العقاب، اذ لا يمكن مكافحة هذه الظاهرة الا بالقضاء على الاسباب المؤسسة لها.
  • عاشرا – الفساد هو الحاضنة الأثيرة للافلات من العقاب – للفساد آثار مدمرة على الدولة ومؤسساتها، وبخاصة المؤسسات المعنية بنظم العدالة، وان احد اهداف الفساد – والذي يرد في المقدمة عادة – هو هزّ ثقة الناس في نظم العدالة من خلال العمل على اضعاف تلك النظم، لكون اضعافها يتيح للفساد التحرك بحرية وسلاسة. وامام هذا الوضع الفاسد وضعت الامم المتحدة اتفاقيتها لمكافحة الفساد،وعدّت تلك الاتفاقية اداة اساسية لحماية حقوق الانسان من خلال الدور الحاسم لنظم العدالة (المادة 11 من الاتفاقية).

لهذا السبب فان مؤسسة الفساد تعمل جاهدة على تعطيل عمل المؤسسة القضائية وبكافة السبل المتاحة لها. وتعقيبا على هذا الموضوع قال المقرر الخاص للامم المتحدة المعنيّ باستقلال القضاء، والذي كان سابقا يشغل منصب وزير العدل ووزارة الخارجية في دولة البيرو «دييغو غارسيا سايان»، قال: «يقلل الفساد من ثقة الجمهور في العدالة ويضعف قدرة النظم القضائية على ضمان حقوق الانسان». لهذا فعندما يكون الفساد مستمكنا ومترسخا ومستشريا في مفاصل الدولة، فان الحديث عن مكافحة الافلات من العقاب يكون مجرد لغو لا اكثر.

عرض مقالات: