شكلت نتائج الإنتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات، والتي اجريت في كانون اول الماضي، سؤالا هاما حول حجم وموقع وفعالية القوى المدنية واليسارية عموما، والتي اشتركت فيها تحت عنوان تحالف “قيم المدني”. ولا يخفى على احد أن العمود الأساس لهذا التحالف وناظمه هو الحزب الشيوعي العراقي. وبالتالي  فأن السؤال  السابق  يتمحور  حول فاعلية  الحزب  وصواب  تقديراته  في  المشاركة  من  عدمها  في  هذه الفعالية  السياسية  والأجتماعية  في  آن.

إن الذهاب  مجددا  لإعادة  تبرير  النتائج  المتواضعة  لا  تبدو مناسبة  ومفيدة  في  تقييم  مشاركة  الحزب وحيويته  في  ظروف  علنية  بالكامل، أمتدت  لما  يزيد على العشرين عاماً.

 لقد  شكلت  انتفاضة  تشرين  المجيدة  عام  2019 معلما  هاما  في  الحياة  السياسية لعراق  ما  بعد  الاحتلال  الأمريكي عام 2003. وكانت استفتاءا  شعبياً  كبيراً على  نفاذ  صلاحية  منظومة  نظام  المحاصصة  والفساد القائم.  ولم يكن الثمن سهلا ً، مئات الشهداء وآلآلاف من الجرحى والمعاقين.

وانبثقت على اثرها حركات شعبية واجتماعية، كان عمادها شباب الإنتفاضة. والحديث عنها وعن مصائرها اللاحقة، وطريقة تعاطي الحزب الشيوعي العراقي معها، حديث يطول ويتشعب كثيراً. لكن ما يهمنا هنا هو أحد المطالب والنتائج التي أدرجت على جدول عمل الإنتفاضة، والتي تمثل في اعتبار “مجالس المحافظات” حلقة زائدة في بناء الدولة، ووجه أخر للفساد، تم اختباره وطال الحاكمين واحزابهم. بل شكلت – بطريقة ما – مصدراً هاماً أخر لتمويل كل انتخابات، برلمانية ومحلية، لضمان تدوير واعادة انتاج ذات القوى الفاسدة ورموزها التي عبثت بمقدرات بلدنا وشعبنا.

وقد اتفق الحزب عملياً، مع التقدير الشعبي العام، واسهم بما يملك من طاقة في الإنتفاضة ومجرياتها. ومن ثم خلق رأياً عاماً، مفاده ان موقف الشيوعيين العراقيين يتسق مع الحس الشعبي وارادة المنتفضين. لكن الغريب هو استدارة الحزب اللاحقة للمشاركة في انتخابات مجالس المحافظات، مما خلق أرباكاً وعدم قناعة، لم تكن غائبة اصلاً عن ملايين العراقيين، ممن قاطعوا أو عزفوا عن المشاركة على خلفية تمثلت بعدم جدوى الانتخابات، التي تجرى كالعادة وفق مقاسات المتحاصصين الفاسدين من الذين تم اختبار حكمهم على مدى عقدين من السنين.

كانت حجة الحزب المعلنة، بأنها استحقاق دستوري واجب التنفيذ، وتمرين تعبوي هام، رأى فيهما الحزب عوامل اساسية لترجيح كفة المشاركة في الانتخابات وليست مقاطعتها.

وفي تقديري، يكمن هنا نسيان درس التاريخ، المتمثل في أن كل شرعية دستورية معلنة، تسقط امام امتحان ورغبات “الشرعية الشعبية” المتجددة والرافضة للعيش تحت مظلة حكم طائفي غير قادر سوى على بناء دولة فاشلة تماماً، خاصة وأن شرعية كهذه، كان ثمنها دماً وأرواحاً طاهرة للالاف من العراقيين الشجعان، خلال انتفاضة تشرين المجيدة.

وبدى الأمر، وكأنه تراجع أو نكوص عن شعار رفعته الملايين من الجماهير المنتفضة. وقد اسهم ذلك، من جملة اسباب اخرى، بسحب “كارت” التأييد لمرشحي الحزب، حتى من قبل الفئات الاجتماعية التي ترى في الحزب ولا تزال، ضميرها الوطني واملها المرتجى.

لكنه، كشف ثانية، عن هشاشة قرار المشاركة في الانتخابات. وكان يمكن لأي استفتاء بسيط لمنظمات الحزب أن يصحح مسار الموقف السياسي مبكراً. والأنكى من هذا، زادت التقديرات المتفائلة والمبالغ بها للنتائج المتوقعة، والتي جاءت على لسان قياديين في الحزب، من الأمر سوءاً، وشدد من ذلك، التبريرات المعروفة بعد اعلان النتائج، كدور المال السياسي وقانون سانت ليغو والمفوضية غير المستقلة وغياب قانون الأحزاب السياسية وسطوة الميليشيات المسلحة واستغلال نفوذ الدولة وغيرها.

كانت كل هذه الأسباب صحيحة، لكن كان يجب أن تدفع باتجاه المقاطعة لا المشاركة، فيما زادت النتائج المتواضعة الطين بلة.

ان الانتخابات مضت، وهناك استحقاقات قادمة، يجب أن يتهيأ لها الحزب جيداً. فالحاجة لا تزال  ماسة  جدا  لتحالف مدني واسع يكون فيه الشيوعيون قطب الرحى. وهنا لابد من مراجعة شاملة لتجربة الحزب في ظروف العمل العلني، والتي اقترنت بسقوط الدكتاتورية العام 2003، عبر موسع فكري، يجري الإعداد له جيداً، شرط أن يتم فيه الإصغاء الحقيقي لجميع الرؤى ووجهات النظر المختلفة، سوءاً اتسقت مع التوجهات الرسمية للحزب أم لم تتسق، شرط ان لا تنبع من التشكيك والمناكفة، بل عن جمهرة غير قليلة من الرفاق والأصدقاء الحريصين على دور الحزب وتاريخه الوطني الكبير وتوسيع نفوذه الجماهيري، في ظروف بلدنا بالغة التعقيد.

ان العودة الى الفلسفة والروح الغائبة للتوجهات التي اقرها المؤتمر الوطني الخامس للحزب، في تشرين الأول 1993، “مؤتمر الديمقراطية والتجديد” بات هاماً الأن. فلا شيء أهم من اجواء الحرية التامة والصراحة والإحساس بالمسؤولية أزاء مصير الشعب والوطن والحزب. وذلك لا يأتي الا عن طريق “التجديد الحقيقي وترسيخ الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية”، كمدخل اساس لتفعيل العقل الجماعي للحزب ضمان أكبر مساهمة ممكنة في اتخاذ القرارات المصيرية التي تخص الحزب ومستقبله السياسي.

عرض مقالات: