تنطلق القوى المدنية من فكرة مفادها، ان مشاركة اكبر عدد من الناخبين، سيغير خارطة الأحزاب الممثلة فى البرلمان او فى مجالس المحافظات، باتجاه زيادة عدد مقاعدها على حساب الأحزاب الحاكمة الفاسدة. في كل مرة تطرح القوى المدنية هذه الفكرة، لا تقدم أي مبررات على واقعيتها، ومع تكرارها المستمر لهذه الفكرة، جعلتها من كلاسيكيات خطابها السياسي.

تهدف فكرة اقامة الانتخابات، الى توسيع دائرة اتخاذ القرار، بمعنى ان يمثل كل عضو برلمان او مجلس محلي اكبر عدد من افراد الشعب، تمهيدا لتحقيق الديمقراطية وضمان تقديم الخدمات، وصولا الى تحقيق مصالح الشعب، ضمن تطبيق قاعدة العدالة الاجتماعية، بواسطة برلمان يمثل كل الوان الفسيفساء الفكري والعرقي والديني.

ولو طبقنا هذه الفكرة على واقع الشعب العراقي، سنجد من الصعب جدا تحقيقها، لان الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة لها، لم تتمكن من كسب ثقة الناخبين العراقيين. وهو ما يعكسه تراجع الخط البياني لمشاركة الناخبين بعد انتخابات 2014 وصولا الى انتخابات 2023، استنادا الى بيانات مفوضية الانتخابات المستقلة، التي تُنتَقَد وتُتَهم دائما بانحيازها الى الأحزاب الحاكمة الفاسدة.

لقد اثبتت الأحزاب الحاكمة فسادها، فكان من المنطقي ان لا تجد تأييدا واسعاً بين الناخبين، اما الأحزاب المعارضة فقد وقعت بأخطاء تكتيكية، جعلتها غير مفضلة لدى الشعب العراقي، وأخرى إستراتيجية، اظهرتها بمظهر الضعيف غير القادر على احداث التغيير اذا ما وصلت للسلطة.

ان تحليل واقع الأحزاب المدنية يعكس صورتها المخترقة، وغير المنسجمة، ومواقفها المتقاطعة، وعدم ارتباطها برابط متفق عليه وكلها فقيرة ماديا.

وجاء الاختراق من تشكيل الأحزاب الفاسدة لعدد من الأحزاب المدنية، بعد ان خلقت من ازلامها معارضين بطريقة مسرحية، او جرى دسهم داخل الأحزاب الناشئة. وجاء عدم الانسجام نتيجة انطلاقها من أيديولوجيات مختلفة، فمنهم الشيوعي والليبرالي والرأسمالي والإسلامي، وبعضهم بلا ايدلوجية حقيقية. هذا التباين انتج مواقفا متقاطعة في المنعطفات السياسية، عندما تكون بحاجة الى اتخاذ قرار موحد للوقوف بوجه الحاكمين، لذلك كان تباين المواقف مضرا بها اكثر مما هو مفيد لها. على سبيل المثال ما ظهر من مواقف بشأن قانون الانتخابات، بين مُطالِبٍ بتعدد الدوائر الانتخابية واخر يطالب ان يكون العراق دائرة انتخابية واحدة. غياب الرابط فيما بينها والمتمثل بالبرنامج السياسي، يجعلها تتأخر كثيرا في اعلان التحالف والاتفاق على الخطوط العريضة للمعارضة، ودائما ما تقدم نفسها في الوقت الضائع، أي قبل الانتخابات بأيام، فلا اتفاق سلس على البرنامج الانتخابي، ولا لديها الوقت الكافي لتعريف الجماهير ببرنامجها، ولا البرهنة على قدرتها في تطبيقه وعدم التراجع عنه، ولا جمهورها مقتنع حد الايمان ببرنامجها. 

وجاء فقرها المالي قياساً بأمكانيات الأحزاب الحاكمة، نتيجة سرقة المال العام على مدى عقدين، مستغلة اياه في صناعة المليشيات الحزبية والإنفاق على الحملات الانتخابية واستثمار أموال الشعب في مشاريع داخل وخارج البلد لتقوية سلطانها، في حين بقيت الأحزاب المدنية بلا مشاريع تمولها ولا اسناد قانوني منصف لها.

وحتى تكتمل الصورة امام القارئ، فان الأحزاب المدنية العريقة والناشئة، وقعت في أخطاء إستراتيجية وتكتيكية، وَسَعت الهوة بينها وبين الجماهير، تمثلت في المشاركة بالعملية السياسية بوجود المحتل، والتصويت لصالح دستور، اتضح انه مصمم لفرش الأرض والشروع بسرقة المال العام، والمشاركة في انتخابات مفصلة على مقاس الأحزاب الفاسدة وتشكيل أحزاب بالجملة لتحقيق طموحات شخصية مع انها لا تمتلك قاعدة جماهيرية، ومن ثم الدخول في تحالفات غير محسوبة.

وبالرغم من معرفتها، بخطأ الوثوق بالمحتل، الا ان بعضها لا يزال يراهن عليه. كلما اقتربت العملية السياسية من منعطف، يطفوا على السطح تقاطع خطابها السياسي امام الجماهير. إصرارها على المشاركة في انتخابات، تعلم جيدا ان غالبية الشعب العراقي يقاطعها، وسحب منها الشرعية.

هذه الأخطاء بالإضافة الى الأسباب الموضوعية التي تقف ورائها الأحزاب الحاكمة الفاسدة، كالتغيير المستمر لقانون الانتخابات واستغلال المال العام والتزوير بنتائج الانتخابات، لم تترك للناخبين العراقيين، ثقة في التصويت سواء لأحزاب مدنية او حتى من للحاكمة الفاسدة، من اجل بناء البلد وتقديم الخدمات وخلق فرص العمل وتحقيق مبدئ العدالة الاجتماعية، فكانت المقاطعة شعارا رفعته الجماهير، تَصاعَدَ تدريجيا، بعد ان كانت نسبة المشاركة في الانتخابات، عقب احتلال العراق وسقوط الصنم، من الأعلى في العالم. 

يتضح مما تقدم، ان الأحزاب المدنية العريقة والناشئة ساهمت، نتيجة اخطائها، في دفع المواطنين العراقيين الى مقاطعة الانتخابات، وحجب الثقة عن كل الأحزاب العراقية حتى المدنية منها، ولو فكرت الجماهير العراقية في المشاركة بالانتخابات، فإنها لن تجد من تمنحه الثقة للخروج من هذا المأزق. لهذا ننتظر من الأحزاب المدنية ان تعمل أولا على مد جسور الثقة مع الجماهير، بتغيير إستراتيجيتها وتكتيكاتها وطرح برامج انتخابية مقنعة، انطلاقا من موقفها تجاه العملية السياسية الجارية، خاصة آلية الانتخابات، وصولا الى تفاهماتها فيما بينها، وترسم خارطة طريق تلبي طموحات المواطنين، تقدم من خلالها، مواقفَ مختلفة عما عاشته منذ العام 2003 الى يومنا هذا، ولا تكتفي بتقديم برامج انتخابية مكتوبة على الورق، لان الشعب العراقي لم يعد يثق بالكلام، بل هو بحاجة الى مواقف صلبة وثابتة على طول الخط، يمكن من خلالها مد الجسور معه من جديد. ولا ننسى تغيير أدوات التواصل مع الجماهير، باللجوء الى استخدام كل سبل التواصل المباشر وكل وسائل التواصل الحديث، على ان يكون الثبات على المبادئ هو الأساس في عرض القوى المدنية نفسها على الجمهور. 

عرض مقالات: