على شرف الذكرى الـ 90 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، احتضنت حدائق مقر اللجنة المركزية للحزب في ساحة الأندلس، وسط بغداد، في 31 آذار ٢٠٢٤، أمسية حوارية مفتوحة أدارها الإعلامي علي المهنا، وتحدث فيها الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب.
وقبل بدء الحوار، رحّب الرفيق مفيد الجزائري بالحاضرين، وقال إن مناسبة 31 آذار 1934 هي حدث كبير في تاريخ الشيوعيين العراقيين وبلادهم، حيث تأسست قبل 90 عاما «لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار». وبعد اقل من عام على ولادتها اختارت لنفسها الاسم الأدق تعبيرا عن طبيعتها وجوهر رسالتها وهو «الحزب الشيوعي العراقي» الذي خاض نضالات كبرى من اجل حقوق الشعب العراقي والاستقلال، ومن اجل بناء الوطن وتقدمه وازدهاره.
بعد ذلك بدأت الجلسة الحوارية التي حضرها جمع من ممثلي القوى السياسية العراقية والرفاق والأصدقاء. وادناه ما دار فيها:
علي المهنا: في الذكرى التسعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، نتحدث في هذه المناسبة عن المكتسبات التي تحققت على مدى تاريخ الحزب.
ما هي الإنجازات التي حُققت بفضل التجارب التي مرّ بها الحزب على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ وما هي الأشياء التي اكتسبها الحزب، وما هي الأشياء التي خسرها؟
رائد فهمي: أتقدم أولاً بأطيب التهاني لجميع الرفيقات والرفاق، وبشكل خاص إلى عائلات شهداء الحزب، وإلى عائلات ورفاق أنصارنا الذين خاضوا ورسموا وكتبوا صفحات مجيدة في تاريخ حزبنا، والذين بفضل دمائهم سُقيت شجرة الحزب والحركة الوطنية على مدى التسعين عامًا الماضية.
وخلال هذه الفترة، عندما نتحدث عن المكاسب، فإن الجميع يقرّ بذلك، العدو والصديق، وكل المؤرخين الموضوعيين للحركة الوطنية في التاريخ السياسي العراقي المعاصر، بأن الحزب الشيوعي العراقي كان له دور أساسي ومتقدم، سواء في الصراع الوطني في مواجهة أي شكل من أشكال التواجد والنفوذ الاستعماري داخل الوطن. كما كان مناضلًا صلبًا من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لذا كان نضاله وطنيًا تقدميا طبقيا وديمقراطيا، وما حققه في كل هذه السنوات لم يكن لنفسه فحسب، بل لإثراء وتأمين صلابة واستمرارية الحركة الوطنية وإغناء مضامينها.
لقد لعب مشروع الحزب دورًا أساسيًا في ما حققته الحركة الوطنية من وحدة وقدرة على الجمع بين النضال الوطني والاجتماعي.
ومعلوم أن ثورة 14 تموز، التي أعلنت بداية الاستقلال السياسي الناجز للعراق وفتحت الطريق أمام الاستقلال الاقتصادي، كان للشيوعيين دور كبير فيها من خلال تشكيل الجبهات الوطنية، جبهة الاتحاد الوطني، ورسم البرامج التي استُرشد بها إلى حد كبير حتى الثورة.
وإن الحزب لعب دورًا اجتماعيًا كبيرًا، ويُسجل للشيوعيين دورهم في إغناء الحياة الثقافية والتنوير، حيث كانوا في الصدارة وعنصرًا رئيسيًا في بناء عملية الحداثة في العراق وتصدروا الفكر التنويري في مواجهة التقاليد البالية التي تعيق التنمية والتطور والرقي بالوعي. كذلك في الموقف من المرأة والشباب.
ويعود الفضل الكبير في هذا الدور الثقافي التوعوي إلى الشيوعيين، الذين لعبوا أيضًا دورًا كبيرًا في تأسيس النقابات والاتحادات. وعند دراسة الحركة الاجتماعية، نجد أن الشيوعيين كانوا في طليعة التأسيس ولم يتحقق ذلك ببساطة بل بتضحيات جسيمة. وأن هذا الدور المرموق، الذي سُجل تاريخيًا، يُعتبر رأسَ مالٍ كبيرا للحزب الشيوعي.
علي المهنا: ونحن نتحدث عن الذكرى التسعين، قد نلاحظ أن هناك أحزابًا تقترب من الحزب الشيوعي في العمر. وبعد تجربة عام 2003 شهدت عملية تصدع وانقساما في العناوين، وواجهت هذه الأحزاب ظروفًا ضاغطة جعلتها غير قادرة على الحفاظ على العنوان الرئيس.
ما الذي امتلكه الحزب الشيوعي الذي مكّنه على مدى هذه السنوات من البقاء تحت عنوان واحد دون أن يتجزأ أو يكون مجرد غطاء لمجموعة من الأحزاب؟
رائد فهمي: ربما يكون أحد العناصر الرئيسة هو الأساس النظري للحزب وطبيعة مشروعه الطبقي والوطني، الذي عبّر منذ البداية عن مصالح الطبقة العاملة وفئات الشغيلة وشرائح مجتمعية واسعة تشترك في رفض أشكال الاستغلال ورغبتها في بلد يتمتع باستقلال وطني حقيقي، وعراق مزدهر خالٍ من أي شكل من أشكال الاستبداد.
وقد كانت مصالح هذه الطبقات بمثابة بوصلة استرشد بها الحزب، مستندًا إلى نظرية علمية تؤمن له دراسة الواقع واستخلاص البرامج والمهمات التي تنسجم معه، وكذلك رسم الاستراتيجيات والتكتيكات التي تعمّدت بالنضالات والدماء. كل هذا شكّل قاعدة فكرية نضالية إنسانية عززت من تماسك الشيوعيين وثبات وجهتهم. لذلك، نلاحظ أنه رغم الانعطافات الحادة التي شهدها العراق، والانعطافات السياسية الكبيرة جدًا، وحيث قدّم الشيوعيون الآلاف من الشهداء والضحايا، ولكن في كل مرة يعاود الشيوعيون بناء تنظيماتهم ويواصلون النضال، ما يعني أنهم أرسوا جذورًا عميقة في تربة المجتمع العراقي. وخاضوا نضالا متعدد الجوانب. بمعنى أنهم لم ينطلقوا أبدًا من مصالح سياسية ضيّقة، بل نظروا إلى مصالح الحزب من خلال مصالح المجتمع العامة وخاصة مصالح الشغيلة والكادحين. والبوصلة التي يحتكم الحزب إليها هي المصالح الوطنية ومصالح الشعب العليا، وهذا عامل تحصين للحزب مكّنه من أن يصمد أمام كل الحملات، ولا نتحدث عن حملات القمع فحسب، بل عن الحملات الفكرية وحملات التشويه. واليوم، يشهد العالم تطورات سريعة ومتسارعة، والمحيط الاجتماعي والدولي يفرز أوضاعًا غير مسبوقة، مع ذلك بقي الحزب قادرًا على التعامل والتكيف والتفاعل مع هذه التطورات واستنباط الأشكال المناسبة استرشادًا بنظريته دون أن يتعامل مع هذه النظرية بجمود. بمعنى أنه يجد في التجديد عملية متواصلة. والحزب الذي لا يجدد نفسه تتجاوزه الحياة. ومن العوامل الاساسية في الحفاظ على وحدة الحزب خلال العقود الاخيرة هو ما استخلصه من دروس من تجارب الانشقاقات في المراحل الاولى بعد التأسيس وحتى ستينات القرن الماضي، فكان تطوير الديمقراطية الداخلية وآلياتها وادارة الصراع الفكري داخل الحزب مكنت الحزب من استيعاب الاختلافات والتباينات في الاجتهادات الفكرية والسياسية ضمن اطره التنظيمية، وقد حزبنا في ذلك عن الكثير من الاحزاب، على صعيد العراق، وحتى مقارنة ببعض الاحزاب الشيوعية في العالم.
علي المهنا: أي المراحل شكّلت تحديًا كبيرًا للحزب الشيوعي، ونحن الآن نتحدث عن الذكرى التسعين؟ وما هي المرحلة التي تُعتبر نقطة تحول مهمة، حيث كانت فيها المعاناة أشد؟ وهل تعتقد أن المستقبل قد يكون أفضل بكثير، أم أن التحديات ستكون أكبر؟
رائد فهمي: نقول إن التحديات تبرز لأسباب مختلفة، فالواقع يُظهر لنا تحديات كبيرة، والآن نتحدث عن قدرة الحزب على مواجهة هذه التحديات.
لقد شهد الحزب تحديات عديدة سلبًا وإيجابًا. وواجه تحدي فقدان قيادته المجربة بعد اعدام الرفاق فهد وحازم وصارم. وبعد ثورة 14 تموز، أصبح الحزب أكبر حزب في الساحة وواجه تحديات جديدة في بناء واقع جديد وتحقيق تحولات اجتماعية وتنظيم هذه الجماهير الكبيرة.
تحققت مكاسب كبيرة في تلك الفترة وحتى الآن آثارها واضحة، سواء في الإصلاح الزراعي أم السياسات الاقتصادية أم بناء قاعدة اقتصادية صناعية وقانون الأحوال الشخصية. وكان للشيوعيين دور كبير فيها. لكن كانت هناك تحديات في كيفية ضمان هذه النجاحات وكيفية تأمين استمرارها وتغلبها على المؤامرات التي حُيكت في ظل نظام عبد الكريم قاسم، الذي كان وطنيًا ولكن في الوقت نفسه كان لديه نقاط ضعف، منها الفردية وسياسة التوازنات التي سمحت، بالنتيجة، للقوى المعادية للثورة بأن تنجح في انقلابها الأسود في 8 شباط عام ١٩٦٣.
وكانت هناك حملة على الحزب طالت الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين وزجّ بهم في السجون والمعتقلات واقبية التعذيب واستشهد الرفاق سلام عادل والحيدري والعبلي وغيرهم الكثير من قادة الحزب وكوادره، وحاولوا تفكيك وإبادة الحزب. وبعدها طُرح تحدي كيف يعيد الحزب نفسه ونجح في ذلك. وفي عام 1968 كان هناك تحدي آخر، وجاء حزب البعث بلون ووجه آخر وخاض الحزب التجربة بنجاحاتها وإخفاقاتها، حتى عام 1979 حيث حصل انعطاف كبير آخر. وكانت هناك أيضا كيفية مواجهة عمليات التصفية التي يواجهها الحزب وظهرت قدرة الحزب على خوض مختلف أشكال النضال ولجأ إلى الكفاح المسلح في تجربة الأنصار في إقليم كردستان، ومن ثم ضُربت حركة الأنصار عام 1988 واستُخدم السلاح الكيماوي. وواجه الحزب تحديًا آخر لمواجهة هذه النكسة وآثارها واضطر العديد من رفاق الحزب الى اللجوء للمنافس ودول اللجوء، ومن ثم جاء انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الاشتراكية، ومن ثم جاءت الولايات المتحدة وحصل الاحتلال، وهذا أيضًا وضع جديد بالنسبة للشيوعيين الذين لديهم هذا السجل الطويل في مكافحة ومواجهة القوى الاستعمارية.
خضنا صراعًا فكريًا وسياسيًا من أجل أن يكون التغيير والخلاص من النظام الدكتاتوري أساسًا بقوى عراقية، وكانت وجهتنا هكذا دون ان تكون هناك استعانة بالعامل الخارجي ولكن الأمور سارت باتجاه آخر. هذه المعادلة معقدة، فكيف خاض حزبنا الصراع في هذين البعدين، البعد الوطني الذي يتطلب إنهاء الاحتلال والبعد الآخر بعد الخلاص من النظام الدكتاتوري. كيف يمكننا أن نبني عراقًا آخر، ومستقلًا ديمقراطيًا اتحاديًا. واستطاع الحزب خلال فترة أن يعيد بناء تنظيماته وهذا أيضًا كان تحديًا كبيرًا في ظل احتلال وقوى ليس جميعها تحمل الود للحزب. ومع ذلك استطاع الحزب أن يعيد بناء تنظيماته بسبب مواقف الشيوعيين والشيوعيات وحماسهم واندفاعهم وإرادتهم، وفي ظل ظروف بالغة التعقيد. ومن شروط النجاح في مواجهة التحديات وتجاوز الإخفاقات كان تقييم تجارب الحزب وسياسته عند الانعطافات بصورة انتقادية واستخلاص الدروس والعبر من التجارب النجاح والفشل.
علي المهنا: كيف يمكن لحزب يحمل هذا الفكر أن يتعامل مع مجتمع تغيرت فيه المفاهيم وطريقة التعاطي مع العديد من القضايا، وأصبح يتعامل بشكل براغماتي، على الأقل في المجال السياسي؟ إذا ما أردنا أن نتحدث عن عملية التنافس الانتخابي على سبيل المثال، كيف يمكن لحزب يحمل هذه المبادئ أن يجد أرضية للتنافس في مجتمع يتعامل بشكل براغماتي، وفي ظل منظومة تؤسس لهذا النوع من التعامل؟
رائد فهمي: بما أننا تحدثنا عن التحديات، فهذا واحد منها: الحزب الشيوعي لا يمكن أن يعمل إلا في مجتمعه، فنحن لن نستورد مجتمعًا اخر؛ المجتمع العراقي نتعامل معه كما هو، وبالتالي، نعم، نواجه تحديات الخطاب وأشكال العمل وكيفية التعامل مع القوى الأخرى، وكيفية العمل أيضًا في ظل ظروف يُغلف فيها الصراع الاجتماعي والتناقضات الاجتماعية بغطاء عشائري أو ديني أو طائفي، او مناطقي، بحيث تخضع للهوياتية، في مسعى الى جعلها صراعات عَلى الهوية. لكن الصراعات والتناقضات الاجتماعية قائمة، وربما تطغى في لحظة معينة الصراعات الطائفية والدينية أو غيرها عليها، ولكن تبقى تلك الصراعات موجودة وقائمة. وعندما نقول إن مجتمع ما بعد 2003 هو غير مجتمع السبعينات والثمانينات، نقول أيضًا إن مجتمع اليوم هو غير مجتمع 2003؛ إذًن العملية مستمرة. في الوقت ذاته، نحن نعمل على التجديد ودراسة الواقع المتغير ومعادلاته، وهذا تحد قائم حتى هذه اللحظة.
علي المهنا: إذا أردنا أن نتحدث عن رؤية الحزب الشيوعي في الذكرى التسعين لتأسيسه وعن قراءته لما يعانيه المجتمع الآن، هل يحتاج إلى معالجات مجتمعية من خلال الفكر والعمل الذي ينتهجه الحزب، أم أنه يحتاج إلى حلول سياسية سريعة؟ وما هي المجالات التي يجب أن يركز عليها القائد الفاعل والمعني بقيادة المجتمع في هذه الفترة؟ هل هي حلول مجتمعية أم حلول أخرى؟
رائد فهمي: نعتقد أن الحل الأمثل لمشاكل العراق ولوضعه على طريق التطور والتنمية هو تأسيس دولة مدنية ذات عمق ديمقراطي، سياسيًا واجتماعيًا، تحقق العدالة الاجتماعية ضمن إطار دولة اتحادية.
وتُعد الدولة الاتحادية حلاً معقولاً ومناسباً في الظرف التاريخي الحالي لتعدد القوميات، وبشكل خاص للقضية الكردية، وحقوق الشعب الكردي. والآن، نتحدث عن العمل من أجل بناء دولة وطنية قادرة على الحفاظ على السيادة الوطنية واستقلال العراق وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية ووضع البلد على طريق التنمية الاجتماعية - الاقتصادية.
كل هذه الأهداف تواجه معوقات، وأعتقد أن علينا التوقف عند نهج المحاصصة اذ يجري الحديث عن ضرورة مشاركة جميع المكونات والاطياف القومية والدينية في الحكم باعتبارها وسيلة لتحقيق الاستقرار والأمان، ومن ثم بناء العراق ووضعه على طريق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. ولكن واقع الأمر لم يُثبت صحة هذه الوجهة. نحن جميعًا متفقون على أن كل أطياف الشعب يجب أن تكون لها مشاركة حقيقية في إدارة شؤون البلاد من مبدأ المواطنة، وهذه المواطنة لا تعني إلغاء الخصوصيات. ولكن هذا المبدأ، في التطبيق عمليا ودون الاستفاضة، تحول من مشاركة المكونات إلى مشاركة ممثلي المكونات، وبالتدريج، وهؤلاء الممثلون تحولوا الى ممثلين لأحزابهم، ونلاحظ أن الصفة التمثيلية لهذه الأحزاب تقلصت على مدى السنوات.
وفي ظل التعامل مع السلطة كغنيمة، نشأت تمايزات مجتمعية جديدة، والفئات التي سيطرت على السلطة منحت لنفسها امتيازات غير اعتيادية، ومن خلال الفساد استحوذت على المال العام، فنشأت شرائح جديدة ذات مصالح بعيدة كل البعد عن مصالح الجماهير، مصالح الأغلبية الساحقة.
علي المهنا: كيف يمكن للحزب الشيوعي أن يعمل داخل هذه المنظومة؟
رائد فهمي: نحن نعمل بأشكال نضالية متعددة ولكنها مترابطة، فكريا وسياسيا وتنظيميا. وفي المراحل الأولى دخلنا في العملية السياسية ونظرنا اليها على أنها عملية انتقال بالعراق من حالة الاستبداد والحكم الشمولي إلى نظام ديمقراطي اتحادي. وهذه العملية ينبغي أن تتم سياسيًا وسلميًا.
لكن هذا المسار، رغم أن الجميع يتفق على العناوين والأهداف، ليس مسارًا واحدًا؛ ففي داخله هناك عملية صراع حول بناء دولة، وصراع حول التوجهات. نحن مدركون أن العملية السياسية هي أيضًا ساحة صراع، سواء في ما يتعلق بالنهج العام مثل نهج المحاصصة أو نهج المواطنة، وهذا صراع. وكذلك السياسات الاقتصادية وكيف يتم توجيهها وبناء الدولة. حتى هذه اللحظة، هناك صراع حول الدولة وبناء الدولة.
نحن خضنا هذا الصراع بشكلين في السنوات الأولى من خلال مشاركتنا في السلطة، لكننا لم نترك يومًا ما ساحة النضال الشعبي. هناك قوى لا تريد دولة، وهذه الدولة ليست مكتملة الشروط؛ فدولة القانون والدستور يجري التلاعب بها وتُدار من خلال توافقات، كل هذا يضعف من صفاتها كدولة. ولكن في المقابل، لا نقول إنه لا توجد دولة بالكامل، إذ ينبغي للدولة أن تحقق عدة شروط لتكون قادرة على تحقيق وظائفها، ومن أهمها حصر السلاح بيد الدولة. وبعد تفاقم الأزمة البنيوية وهيمنة قوى المحاصصة والفساد طرحنا شعار التغيير الشامل والتوجه نحو بناء أوسع تحالف ممكن يضم القوى السياسية والمجتمعية الرافضة لنهج المحاصصة والمطالبة بدولة مدنية ديمقراطية تقوم على العدالة الاجتماعية.
علي المهنا: ما ردك على من يقول إن مرحلة ما بعد عام 2003 ربما هي من أصعب وأخطر المراحل التي مرّ بها الحزب الشيوعي العراقي في طريقة تعاطيه مع العمل السياسي، لاعتبارات كثيرة، منها أن هناك أطرافًا سياسية سعت وما زالت تسعى نحو صناعة حواجز بين المجتمع والحزب الشيوعي العراقي، لاعتبارات كثيرة، منها أنه يقدم خطابا مجتمعيا يقترب كثيرا من الفئات الفقيرة.
رائد فهمي: هذا أمر متوقع. وهناك قوى تعمل بأساليب مختلفة لعزل وتحجيم الحزب، ولخلق فجوة تارة بالدين وتارة بالهوية، وبأشكال مختلفة، ومنها ما يستل من خانة العداء للشيوعية. لذلك، نعتبر ذلك جزءًا من التحديات.
اليوم، نتحدث عن الأرضية التي تسمح للحزب أن يرسخ حضوره. ونسمع البعض وهو يقول إننا الآن في وضع جديد وأن الحزب لم يعد قادرًا على مواكبته، لكن نحن نقول: هل الصراع الاجتماعي انتهى؟ هل مصالح الشغيلة والكادحين وعموم الشعب لبّيت؟ وهل التناقضات انتهت؟ ومن يعبر عنها حقًا؟ ومن يخوض النضال من أجلها؟ وما هو السبيل لمواجهة هذه التحديات؟ إذن، نعتقد أن الأرضية الموضوعية لحزب مثل الحزب الشيوعي العراقي ما تزال قائمة.
علي المهنا: ما أخطر ما يواجه الحزب في هذه المرحلة؟ هل يمكن أن نقول إن المال السياسي للخصم هو الذي يشكل خطرا، على الأقل في هذه المرحلة والمرحلة القريبة، أم أن الفكر والمواجهة الفكرية يُعتبران أكثر خطورة في عملية المواجهة؟
رائد فهمي: اختُزلت أركان الديمقراطية على مدى السنوات عمليًا بالعملية الانتخابية. فأركانها الأخرى المؤسساتية والثقافية والقيمية يُجرى إهمالها وتهميشها، والعملية الانتخابية تدخل بها عناصر معينة تمنعها من أن تكون وسيلة للتداول السلمي الحقيقي، ومن ضمنها المال السياسي واستخدام النفوذ والسلاح والسيطرة على مؤسسات الدولة.
هذه تحديات حقيقية، وبالتالي نحن نقول إن المنظومة الحاكمة هي منظومة وليدة نهج المحاصصة، استخدمت الانتخابات لشرعنة تواجدها وإعادة إنتاج نفسها. وهنا يُطرح سؤال: ما هو السبيل للتغيير؟
نحن رفعنا شعار التغيير الشامل، وهل يعني ذلك أننا ننبذ المسار الديمقراطي السلمي ونلجأ إلى أساليب أخرى؟
أولًا، الديمقراطية ومؤسساتها تاريخيًا وفي كل المجتمعات لم تخرج للحياة بصيغة متكاملة منذ البداية، بل دائمًا تكاملت بفعل نضالات الشعوب وتعززت ديمقراطيتها.
وفي العراق، قانون الأحزاب لم يكن ليُسن لولا الاحتجاجات عام 2015، وكذلك التغييرات التي تحصل اليوم في تضبيط العملية الانتخابية لم تكن لتتحقق لولا النضالات المتواصلة. بالتالي، فان مسار العملية الديمقراطية بكل أركانها السليمة لا بد أن تكون هدفًا نضاليًا نسعى للاستمرار به والعمل من اجل تحقيقه، ولكن في الوقت نفسه، هذا لا يتحقق إلا بإيجاد موازين قوى والقوى التي لها مصلحة في التغيير، ومن هذه القوى الحزب الشيوعي العراقي.
لذلك دائمًا نحن نتوجه إلى المجتمع والعمل الاحتجاجي، وهذا سيستمر والسعي الى تشكيل التحالفات الضرورية التي تجمع القوى المعنية بالتغيير. نحن لا نعتبر أن هاتين الوسيلتين أي المشاركة في الانتخابات والعمل الجماهيري والاحتجاجي والمجتمعي، إحداهما تنفي الأخرى، لكن في لحظة معينة قد يطغى أسلوب على آخر. لذلك قد تأتي ظروف يمكن ان نقاطع فيها الانتخابات، مثلما عملنا في 2021.
علي المهنا: هناك من يسأل ما هي الاستراتيجية التي كان يفكر فيها الحزب عندما قرر عدم المشاركة في انتخابات 2021، ثم عاد بتجربة انتخابية هي بذات الظروف؟
رائد فهمي: خوض الانتخابات وعدم خوضها هو قرار تكتيكي وليس استراتيجيا. خوض انتخابات معينة يأتي وفقا لظروفه. في عام 2021، ونحن كنا على مسافة قريبة من انتفاضة 2019، ومطلب الانتخابات المبكرة كان مطلبًا تشرينيًا، والغرض من طرح شعار الانتخابات المبكرة آنذاك لأن المزاج الشعبي العام لو انعكس انتخابيًا لكان بالضرورة أدى إلى تغيير، لكن حدث تسويف في إجرائها وأنواع من الممارسات القمعية وضرب للناشطين واستهداف للبعض واستشهاد البعض الآخر. بمعنى حال ذلك دون مساهمة جماهير الانتفاضة وداعميها وسانديها.
فعندما حدد موعد الانتخابات بعد التعطيل والتأجيل والتسويف، كان تقديرنا السياسي بأن هذا كان للإجهاز على روحية تشرين وما حققته الانتفاضة، وبالتالي نحن اعتبرنا المشاركة لا تخدم تعزيز العملية الاحتجاجية والإرادة الشعبية التي جرى الالتفاف عليها وتفتيت قواها. بالتأكيد، المال السياسي وغيره موجود حتى الآن، لكننا لا نعتقد أن كل هذه الشروط يجب أن تتحقق لكي نشارك، فهذه عملية نضالية تراكمية.
نحن نعتبر أن النضال مستمر وممكن أن يحقق تقدمًا، لكن في لحظات معينة عندما تكون حركة جماهيرية وضغط جماهيري عالٍ وقادر على أن يتجاوز كل ما يمكن أن تتمخض عنه الانتخابات، فبالتأكيد سيكون الخيار للحراك الشعبي. لذلك نحن عندما شاركنا في انتخابات عام ٢٠٢٣، رأينا أن المزاج في تراجع وإحباط، وبالتالي نحن نظرنا الى أن خوض الانتخابات ربما يكون عنصر تفعيل للناس وللجماهير التي أُحبطت.
علي المهنا: في هذه الفترة، كثُر الحديث عن موضوع انتخابات مبكرة، ورسائل باتت تُطلق من أطراف سياسية من خلال من يمثلها بالحديث إعلاميًا عن فكرة أن تكون هناك انتخابات مبكرة. هل يعني ذلك، إذا ما تحقق أو دار الحديث عنه بشكل أكبر، أن النظام السياسي لم يعد قادرًا على الثبات؟
رائد فهمي: السيد السوداني دائمًا يقول: نحن نحقق الاستقرار، استقرارًا سياسيًا وأمنيًا. نحن وجهة نظرنا، في ضوء قراءتنا للواقع وطبيعة نهج المحاصصة والصراعات على المكاسب والمواقع، يصعب أن يتحقق استقرار في ضوء التناقضات والتمايزات التي تحدث، وحتى استقرار الحكم أيضًا يبدو فيه إشكال، ولذلك إذا كانت الانتخابات ستحسم الأمور فليس لطبيعة الحكم وإنما لحساب طرف على حساب طرف آخر. فهذه حسابات منظومة الحكم في ما بينها، فنحن نعتقد أن الصراعات موجودة على المصالح والنفوذ.
هناك صراعات سياسية وتُسلط عليها أضواء كثيرة، صراعات ما بين رموز أو قيادات تمثل التيارات السياسية المشاركة في إدارة الحكم على مدار سنوات، وهذا الأمر عمليًا لا يعني كثيرًا للناس، فالمتنفذون لا يملكون أي منهج أو برنامج يمس بنية النظام وهيكلية النظام المأزومة، وبالتالي هو مجرد صراع على كيفية تقاسم وكيفية تغيير موازين القوى لصالح هذا الطرف او ذاك. من جانب آخر كل الاعتبارات كانت تقضي بأن يذهب البرلمان الحالي إلى انتخابات مبكرة، فهناك الكثير من الأمور تطعن في شرعيته التمثيلية، خصوصًا بعد انسحاب أكبر كتلة (الكتلة الصدرية)، ونسبة المشاركة في الانتخابات كانت ضعيفة جدًا. ولاحظنا اليوم أن البرلمان لم يحقق شيئًا وإنجازه هزيل، لكن الآن إذا حصلت هذه الانتخابات المبكرة، من سيكون المستفيد الأكبر منها؟ فالانتخابات المبكرة مدرجة ضمن البرنامج الحكومي، ولكن تقررها في النهاية حسابات القوى السياسية المتنفذة ي السلطة.
علي المهنا: أثناء حديثك، ذكرت مفردة “الاستقرار”، وهذا الحديث يُقدَّم بشكل مستمر من قِبَل تحالف إدارة الدولة بشكل عام، والإطار التنسيقي بشكل خاص، مُعلنين أننا الآن في مرحلة ذهبية من حيث الاستقرار السياسي والأمني وحتى الاقتصادي في تجربة ما بعد عام 2003. رؤيتكم في الحزب الشيوعي العراقي، هل نحن الآن في مرحلة استقرار حقيقي على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي، أم أنه خطاب سلطة يُقدَّم للترويج لفكرة معينة؟
رائد فهمي: نحن نعتقد، في ضوء قراءتنا بعمق لطبيعة هذا النظام وطبيعة تناقضاته، أن هناك أزمة بنيوية مرتبطة بنهج المحاصصة، وعلى مدى السياسات المتبعة حتى الآن، بما فيها سياسة الحكومة الحالية، لا تتناول جذور وأسس هذه الأزمة، وتتناول سياسات إصلاحية معينة، نعم هناك هدوء، لكن هل زالت عوامل عدم الاستقرار؟ بالتأكيد لا. ما هو تحت السطح هناك إشكاليات لم تُحل، إذن الاستقرار له شروطه، واليوم هناك استئثار بالسلطة لشريحة معينة بعناوين مختلفة، لكن طبيعتهم واحدة. هو ليس استئثارا بالسلطة، إنما بالثروات، وهناك عدم توازن، وهذا ينعكس في التراكم الذي يحصل في الثروة والاستقطاب الاجتماعي.
علي المهنا: يثار تساؤل عن مدى قدرة حكومة السيد السوداني على تجاوز كل هذه التحديات، ونحن هنا نتحدث عن التحديات التي تتعلق بالمواطن وحياته وتحقيق الاستقرار المجتمعي، هل تراها قادرة أم أنها ستصطدم بعقبات كبيرة، على الأقل في ما يخص القرار الأخير في قضية رفع سعر البنزين؟
رائد فهمي: العنوان الذي يسيّر حكومة السوداني هو “حكومة خدمات”. نحن نعتقد أن هذا الشعار، في بعض الأحيان، يخفي عن قصد أو غير قصد ما هو أعمق.
إذا لم تكن لليوم خدمات للبلد، سواء بلدية أو صحة أو كهرباء، فما هو السبب؟ هل هو فني أم هو في بناء الدولة ومؤسساتها؟ ولماذا بناء المؤسسات غير كفء على مدى سنوات؟ ما هو الأساس في طريقة توزيع المسؤوليات، وفي طريقة تعيين الموظفين أو المسؤولين؟ بمعنى أن حكومة السوداني تحاول أن تعالج النتائج، وهي تردي الخدمات دون الغور في جذورها.
فليس هناك أحد ضد أن توفر له الحكومة الكهرباء أو توفير الجسور، وما ينجز لا اعتراض عليه، لكن خلف ذلك هناك أشياء أخرى تحدث مثل توظيفها وطريقة الإنجاز والاعتماد على أي شركات، وماذا يغيب بسبب التركيز على الجسور مثلا؟ ماذا يحدث في المساحات الأخرى مثل الاقتصاد وماذا يحصل في الدولة؟ الآن كل الأمور مركزة على الخدمات، لكن في الواقع اليوم، العراق يسير بخطوات متسارعة على طريق تطور رأسمالي مشوّه، وهذا البعض قد تراكمت ثروته عبر وسائل مشروعة وغير مشروعة، وفي الغالب غير مشروعة، الاستيلاء على المال العام والابتزاز وتراكمت ثروات بيد اقلية، والفساد أصبح جزءًا مؤسسًا في الدولة.
الفساد يؤدي إلى نخر الدولة ومنع إقامة دولة سليمة، والفساد يؤدي إلى تعميق التفاوتات الاجتماعية وإضعاف التنمية. فإذا كانت هذه العناصر الأساسية لازمة المنظومة، ولا يتم التصدي جذريا لها، وإنما التصدي لنهاياتها، فإننا نعتقد أن هذا النهج غير قادر على حل الأمور.
سؤال من الحضور: الحزب الشيوعي العراقي، والشيوعية بشكل عام، تدافع عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين والفقراء، وهم الذين يشكلون السياج الذي يتخندق خلفه الشيوعيون. فإلى أي مستوى بلغ الحزب الشيوعي العراقي في علاقته بالطبقة العاملة العراقية والكادحين والفقراء؟ وإلى أي مستوى طرق أبواب الكادحين والفقراء في المدن والقرى والأرياف التي ستشكل سياجًا واقيًا له في هذا الصراع الطبقي القائم؟
رائد فهمي: هذا سؤال مشروع وهو هدف مستمر للحزب في أن يوثق صلاته بهذه الفئات والشرائح والطبقات، على اعتبار أن مشروعه يستهدفهم بمعنى أنه معبر عن مصالحهم. الآن نأتي على الوقائع الموجودة بالنسبة للواقع العمالي بشكل خاص، فهو مرتبط بالواقع الاقتصادي عمومًا. صناعتنا ومعاملنا معطلة إلى حد كبير، وبالتالي هذا الواقع العمالي انعكس حتى على مستوى نشاط النقابات. ورفاقنا يعملون في النقابات وربما لعبوا دورًا رياديًا في إعادة تأسيس النقابات بعد 2003، وهم الآن يلعبون دورًا رياديًا في الدفاع عن التشريعات التي تخدم الطبقة العاملة. وعلى مستوى التواجد، النشاطات محدودة لأن قسمًا من المعامل معطل، والمعامل الصغيرة هي عائلية وصغيرة جدًا، والعمل النقابي صعب بداخلها، وتاريخيًا العمل النقابي يكون قويًا في الصناعات الحكومية.
على المستوى الشعبي، الفئات التي تضررت بشكل كبير من التطور الاقتصادي السريع هي تلك التي بدأنا نطلق عليها مؤخرًا اسم «الفئات المهمشة»، العمال الذين يعملون في قطاعات بسيطة مثل التكتك، البسطات، التاكسي، وخدمات التوصيل. هؤلاء يشكلون شريحة كبيرة جدًا من القوى العاملة. هذه الشرائح قد تجد صعوبة في قبول العمل النقابي والتنظيم، غالبًا ما تتأثر بشخصيات كارزمية وخطاب شعبوي.
نحن نسعى الآن لتقديم حلول وطرح أهداف وقضايا يمكن تحقيقها، والتي قد تكون أحيانًا معقدة للجمهور الذي يفضل الشعارات البسيطة والمطالب الواضحة. لذا، نواجه تحديًا في التواصل مع هذه الشرائح. لا أعني أنه لا يمكن تنظيمهم بأي شكل، ففي أحداث تشرين، كانت هذه الشرائح من بين الأكثر صمودًا ومواجهة، وكثير من الضحايا كانوا من بينهم. لكن، هل يمكن تنظيمهم بشكل فعّال؟ هذا أمر لا يبدو سهلا، ويتطلب منّا ابتكار أساليب تنظيمية جديدة.
ونولي اهتمامًا خاصًا بالريف، وقد شهدنا نشاطًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، ونحن نتابع التطورات الجارية هناك عن كثب، وقد لوحظ مؤخرًا عودة ظهور ملكيات كبيرة في الريف بطرق غير مباشرة، ما أدى إلى تبلور اجتماعي نحن بصدد رصده ومتابعته، بالإضافة إلى التناقضات الحاصلة في داخله.
سؤال من الحضور: بديهي أن السلطة ولادة لسلطة أخرى، والمنظومة تحتكر السلطة وتسهم في ترسيخ وجودها وتعزيز بقائها، وكل هذا يجري وفيه دعم ورعاية خارجية. والكل يعلم أن الدول الإقليمية هي عامل قوة للمنظومة الحاكمة، لذلك على القوى المدنية والوطنية والديمقراطية، لاسيما الحزب الشيوعي، أن يعمل بمشروع فطري يحاكي هموم الناس بحيث يكونون قوة مؤثرة وضاغطة على السلطة.
رائد فهمي: إن من سمات النظام التحاصصي هو فتح المجال للتدخلات الخارجية، والدول الإقليمية بدرجات مختلفة لديها تأثير في الداخل، بل قسم منها أصبح يعتبر عاملًا داخليًا وليس عاملًا خارجيًا، ولذلك نحن عندما نتحدث عن بناء دولة مدنية قادرة على تأمين الاستقلال الحقيقي فهو أيضا تحد كبير في ظل هذا التقسيم الطائفي، وهذا يمنع بناء الإرادة الوطنية الموحدة ويمنع بناء الهوية الوطنية. ولذلك أقول إن أغلب الأحزاب المتصدرة للسلطة والقابضة على السلطة عمليًا هي غير قادرة على بناء الهوية الوطنية الجامعة، حتى وإن ادعت ذلك، فهي غير قادرة بحكم أنها تنظر للهوية الوطنية من خلال هويتها الطائفية وهويتها القومية الضيّقة. نعتقد أن الحزب الشيوعي والقوى الوطنية الديمقراطية هي أكثر القوى التي يمكن أن تكون حاملًا للمشروع الوطني. وهناك تحد كبير لأن المصالح القائمة على الهويات بدأت تترسخ، والهوية وُظفت لمصالح فئوية ضيّقة بادعاء تمثيل الهوية الطائفية والهوية المذهبية، لكنها عمليًا تعبر عن مصالح فئات واشخاص. لكن نقول إن ما عبرت عنه تشرين شيء بالغ الأهمية. إذًا هناك مسار للتطورات والمشاكل التي بدأت تبرز على السطح هي مشاكل لم تعد مرتبطة بالهويات إنما مرتبطة أيضا بالواقع الاجتماعي.
علي المهنا: دعنا نتحدث عن النظام السياسي وما يعانيه وقدرته على الثبات. هل ترى النظام السياسي الحالي قادرًا على الصمود وقادرًا على الاستمرار في ظل ما يعانيه من الداخل، أم أنك ترى أن هذا النظام إذا لم يعمل من الداخل على إصلاح نفسه سيكون أمام خطر الانهيار؟
رائد فهمي: دعنا نأخذ المثل اللبناني. ماذا نفرق عن لبنان؟ لا نفرق شيئًا سوى الريع النفطي، والنفط يسمح بعدم تفجر بعض المشاكل وتقديم بعض المعالجات لتسكين وتهدئة بعض المشاكل والحؤول دون أن تتصاعد. قلنا إن الفساد جزء مستحكم في بنية الدولة والدولة ضعيفة بنيويًا، ليس لأن هناك شخصًا فاسدًا وشخصًا غير كفوء، هؤلاء جاءوا بحكم معادلات نظام المحاصصة، ومن ثم الفوضى وإطلاق العنان للاستحواذ والتجاوز على المال العام وما يترتب عليه من تراكم هذه الثروات، وبالتالي هذا يؤثر على الفئات الوسطى ويؤثر على بنية المجتمع ويبني اقتصادًا هشًا. واليوم لدينا دولة ودولة موازية، واحدة من المنظومات هي حامية للنظام في حالة حدوث تناقضات، لكن الدولة متشظية ولا يزال يجري التعامل مع الدولة كوسيلة للوصول إلى المال العام ولتقاسم المغانم ولتأمين الحصانة. وإذا حصل توجه لمعالجة القضايا الجذرية، سيصطدم بمعادلة المحاصصة. في ما يخص الإصلاحات، هناك مدى معين مسموح للحكومة، كما في الفساد، أن تصل إلى مستوى معين ومن ثم عليك أن تقف، وهذه الحدود موجودة في كل مكان. وكيف يمكن بناء دولة والمكاتب الاقتصادية موجودة، وهذا يعني أن هناك حصصًا للأحزاب، ومعنى ذلك وجود فساد؟
علي المهنا: من الأقوى، الدولة أم العناصر الأخرى؟
رائد فهمي: بالتأكيد، الدولة أضعف، وعملية تقوية مؤسساتها بحاجة إلى إرادة سياسية، فعندما يكون هناك ضغط ورغبة شعبية، قد تدفع من يريد الإصلاح الجزئي وتصنع ديناميكية غير الديناميكية التي يراد لها ان تسود.
وإذا كان من يتصدى للإصلاح جادًا، يجب أن تكون إصلاحاته في العمق. لذلك نحن نقول إن من يريد الإصلاح عليه أن ينظر للشعب ويستند على الناس من أجل المضي بالإصلاحات العميقة. أما إذا بقي ضمن الحدود والمساحات التي رسمها له من منحوه التأييد، فستكون التغييرات بسيطة لتجميل الوضع العام لكن دون إحداث تغيير حقيقي.
علي المهنا: في حديثك عن الشعب، ترى الشارع مندفعًا الآن باتجاه من يتحدث عن رغبة حقيقية بإحداث إصلاح في طريقة عمل النظام وفي طريقة عمل مؤسسات الدولة، أم تراه مبتعدًا معتزلًا مكتفيًا بعملية المشاهدة؟
رائد فهمي: المزاج الشعبي ليس على وتيرة واحدة، وفي الفترات الأخيرة قُدمت للشعب معطيات معينة خففت من نشاطه، تعيينات ورعاية اجتماعية وبعض الإنجازات التي تحدث. كل هذا يلعب دورًا، ولكن جوهريًا هناك مشكلة البطالة والشباب، والآن جامعات العراق تخرج كل عام حوالي 200 ألف طالب، ويدخل بالمقابل حوالي 300 ألف شاب في سن العمل. بمعنى أن حوالي 500 ألف يدخلون سوق العمل. هل النظام ككل قادر على أن يجد لهم فرص عمل؟ لا أحد يقدر، إذًن الأزمة مستمرة، وكيف تعبر عن نفسها سياسيًا فهذا موضوع آخر. وما هي مسارات البلد اليوم؟ نرى الاقتصاد استهلاكيًا يعتمد على الخارج والمقومات للصناعة الوطنية لا تزال محدودة وغير مشجعة. وأيضًا أريد أن أشير إلى التمييز بين النمو والتنمية، ممكن لهذا الحال أن يولد معدلات نمو عالية ولكن لا تولد تنمية. ومن الخطورة بمكان تحويل الاقتصاد إلى شركات أجنبية. ونحن نلاحظ حتى الجانب الخدمي العام الذي يمس الناس أيضًا يُقدم للقطاع الخاص، بما في ذلك النقل. مشروع المترو أُعطي لشركة استثمار خاصة، وهذا ينطبق الى حدود كبيرة على الصحة والتعليم والسكن، وكل هذه يحكمها قانون الربح.
علي المهنا: إذا تحدثنا عن التغيير الذي يحصل على شكل مراحل، هل الوضع ذاهب باتجاه هذا السيناريو، أم أن الوضع ربما سيكون مختلفًا عطفًا على تجارب قريبة كتجربة تشرين، هل من الممكن أن يكون هناك تحرك مجتمعي جديد قد يغير المعادلة بالكامل؟
رائد فهمي: بصراحة، من الصعب إعطاء إجابة حاسمة في هذا الموضوع. أولًا، إن التغييرات العراقية ليست فقط داخلية، فهي متأثرة أيضًا بعامل خارجي إقليمي ودولي. ثانيًا، داخليًا، العراق بين يوم وآخر تنقلب فيه الأمور، وهذا البناء قاعدته ليست عميقة، فالاحتمالات قائمة. ونحن نرى أن مسؤوليتنا أن نطور ونعزز دور العامل الذاتي، ولدينا قدرة على أن نتفاعل ونرسم أساليب العمل المناسبة والاستفادة من كل الأوضاع التي تبرز لأجل تعبئة الناس من أجل التغيير، لكن من الصعوبة الان اسقاط أي احتمال، لأن الأزمات قائمة ووضع المنطقة لا يزال غير مستقر ومضطرب، والمنطقة ساحة صراع.
علي المهنا: المنظومة الحاكمة في هذه الفترة، وخصوصًا بعد تشكيل حكومة السيد السوداني، تقول الآتي: إننا في أفضل المراحل التي تمكن فيها النظام السياسي الحالي من تحصين نفسه من التأثير الخارجي. بدليل أن هذه الحكومة تشكلت دون أن يكون هناك تأثير أو رغبة خارجية، بل إن تشكيل حكومة السيد السوداني كان عراقيًا.
رائد فهمي: عندما يكون هناك استقرار، حتى وإن كان استقرارًا نسبيًا، من الطبيعي ان يكون الانجاز أفضل. ففي الاستقرار النسبي لا بد أن يحدث نوع من النمو، بعض الخدمات تتحقق وطرق تتبلط. ونعم، هناك درجة من نمو قدرات العامل الداخلي، لكن هل اكتمل العامل الذاتي؟ هل اكتملت قدرتنا على أن نتحكم بسياستنا كليًا؟ وهل هذه العملية يمكن أن تستمر بدون معالجة مشكلة وحدة السلاح وقرار استخدامه والعوامل الأخرى التي تضعف الدولة؟ هل يمكن أن تتكامل وتتعزز بدون التصدي للعوامل الأخرى من قوى اللادولة؟ هذا هو السؤال.
علي المهنا: أريد أن أتحدث عن المستقبل الذي ينتظر طريقة تعامل النظام في المرحلة المقبلة من حيث تشكيل الحكومات. مررنا بتجربة وربما كانت صعبة على المستوى السياسي وكذلك على المستوى المجتمعي والأمني، وهي تجربة مشروع التيار الصدري في تشكيل التحالف الثلاثي من أجل تشكيل حكومة أغلبية سياسية، وتحول الأمر إلى صدام مسلح وانتهت القصة بالطريقة التي حصلت في تلك الليلة. هل تعتقد أن هذا الانسحاب وذلك الذي حصل بعد الانتخابات الأخيرة، لن يكون هناك ربما عمل من كل الأطراف السياسية في المرحلة القادمة على تشكيل حكومة توافقية من جديد، وإنما التيار الصدري بانسحابه قد فرض على الجميع أن يؤمن ويقتنع في المرحلة القادمة بمشروع يتعلق بحكومة يشكلها طرف فائز وعلى الخاسر الذهاب باتجاه المعارضة؟
رائد فهمي: ماذا حدث خلال السنوات الأخيرة؟ لاحظنا أن فكرة تشكيل تحالفات على أسس هوياتية الآن تراجعت، واليوم الانقسامات أصبحت في داخل أوساطها. ولاحظنا أن الانحيازات أحيانًا تتم وتكون عابرة لهذه المصالح. بمعنى طرف كردي يتعاون مع طرف من هذه الأطراف ضد طرف آخر كردي، وربما بدرجة أقل بين القوى الأخرى، وهذا انعكاس للواقع والتناقضات الداخلية تعود للمحاصصة. فهل هذا يخلق تحالفين كلاهما عابر للطوائف أو للقوميات؟ وهذه إمكانية قائمة والبعض يخشاها.
ودعنا نتحدث عن الصراعات الموجودة الآن داخل الأوساط “الشيعية”، إلى أين ممكن أن تذهب هذه الصراعات بحيث تحدث تحالفات تجعل طرفًا ينتقل إلى معسكر آخر، أم في اللحظة النهائية تبرز الهوية والكل ينصاع إلى الهوية؟ هنا هذه المسألة لا تزال وستكشفها الأيام القادمة، ولكن من الواضح جدًا أن هناك صراعات بينية، وتطرح هكذا إمكانية بأن تحدث اصطفافات مختلفة عن الاصطفافات السابقة.
علي المهنا: هل أنت متفائل بانتهاء مشروع المحاصصة؟
رائد فهمي: من الصعب أن أقول إني متفائل، لكن هناك إمكانيات بأن يتفكك هذا المشروع.