في خطاب الفوز بجائزة ابن رشد للفكر الحر في برلين، تطرق العراقي الاكاديمي الدكتور سعد سلوم، الفائز بالجائزة لهذا العام الى مصير الحراك الاحتجاجي في العراق والعالم العربي وحالة الانسداد الاقليمي الشامل بعد فشل ثورات الربيع العربي.

 

الخطاب الذي القاه سلوم في حفل أقيم في متحف برلين بحضور العديد من المؤسسات الالمانية الاوربية والمثقفين من انحاء العالم العربي كان أشبه ببيان سياسي لما بعد الربيع العربي، بدأه بافتتاحية موجهة لـ”جيلٍ يعيشُ في زمانٍ ومكانٍ محددين، ما بعد الربيعِ العربي، وما بعد داعش”. وأشار سلوم الى جيل ثورات الربيع العربي ومطالبه المتحررة عن الإيديولوجيات والمحددات السائدة، إذ قال “لقد وحَّدَ جيلُ الربيعِ العربيِّ شعوبَنا لأولِّ مرةٍ في التاريخِ المعاصر، بفِعل رغبةٍ في التَّغيير. إذ لم توحِّد هذا الجيل كُتبُ منظري القومية الأُحادية أو الماركسية أو فقهاء الإسلام السياسي، بل “وعْيُ النِّهايات القُصوى” بنهايةِ الدكتاتوريات على نحو هزَّ الافتراضاتِ التَّقليديَّةَ عن خمولِ شعوبنا، وارتقى بنا جميعا من حالة اللَّامُبالاة إلى مرحلة الخَيال السِّياسيّ”.

وعلل الخطاب فشل التغيير في العالم العربي بـ”الإخفاق في مأسسة التغيير”، حيث أشار الى أن “التغيير لا يعني مجرّدَ إعادة كتابة دساتير، أو إجراءِ انتخاباتٍ جديدةٍ أو اتِّباعِ زعيمٍ منقذ، بل هي تحول العقولِ والقيمِ وليس الآليات”. ومضى بالقول إن “الآلياتُ أو الزعماءُ لا يَبنُون “ثقةً” بالنظام السياسي، لكنَّ “المؤسساتِ” هي ما يُحدِثُ هذا الأثر”.

وفسّر سلوم حالة الانسداد الاقليمي الشامل الذي تمر به المنطقة بفشل التغيير في أحداث التغيير المؤسسي وبناء دولة المواطنة، بالقول “لذا، نجد فرانكشتاين سرعانَ ما أعادَ تركيبَ جسدِهِ من قطعٍ جديدةٍ شكّلتْ صورةَ انسدادٍ إقليميٍّ شامل، وتعدى ذلك الى تدميرِ المدنيّات القديمةِ والثرية بتنوعها، فقد تُركَتْ سوريا أرضاً يباباً بعدَ حربٍ أهليةٍ دامية، وباتَ اليمنُ السعيدُ بائساً وحزيناً، وكشفَ انفجارُ مرفأ بيروت عن وجهِ نظامِ الإقطاعِ السياسيّ في لبنان، أما العراقُ الذي خرجَ شبابُهُ بثورةٍ للتغيير من الداخل بعد سنواتٍ من فشلِ التغييرِ من الخارج على يد غربِ ما بعدَ الحداثة، وبعد قرابة 700 شهيدٍ و20 الف جريحٍ ما يزال نظامُهُ المكوناتيُّ عصياً على الإصلاح”.

لكن الأمل لم ينتهِ لدى الأجيال الشابة، لا سيما وإن العديد من الساحات الاحتجاجية ما تزال نابضة بالتمرد. في هذا السياق نبّه الفائز بالجائزة الى ثورة الشباب المستقل في سنجار، إذ جاء في خطابه “من أجلِ الأملِ في التغييرِ خرجَ الشبابُ الإيزيديون، قبل أشهرٍ قليلة، في مظاهراتٍ بمواجهةِ الفصائل المسلحة في سنجار، فبعدَ مرورِ ثمانية أعوام على الإبادةِ الجماعيةِ وتحريرِ مناطقِهم من داعش ما تزالُ الإبادةُ الجماعيةُ حيةً ومستمرةً بالنسبةِ للمجتمعِ الإيزيدي، مع استمرارِ الصراعِ السياسيِّ والتدخلِ الإقليميِّ في أراضيهم، وعدم عودةِ النازحين وتشتتِ المجتمع أكثر فأكثر”.

وحلّل الخطاب تأثيرات الانسداد السياسي والتأثيرات الإقليمية على أوضاع الأقليات الدينية التي باتت تواجه انسدادا مماثلا دفعهم الى التمزق والتشتت والهجرة، إذ جاء في نص خطابه “أما المندائيونَ (أتباعُ يوحنا المعمدان) الذين يمثلون ثقافةً ألفيةً عابرةً للزمانِ والمكان، فقد غادر 90% منهم وطنَهم التاريخي، وها هي مياه يوحنا المعمدان تجفُّ وتتبخرُ، وتفقد ميزوبوتاميا (بلادُ ما بين النهرين) هويتَها التاريخيةَ مع جفافِ مياهِ نهريْ دجلة والفرات بسببِ السياساتِ الإقليمية غير العادلة. المسيحيونَ في الشرق الأوسط أيضاً أصبحوا (بيتاً بمنازلَ كثيرةٍ) اذا ما استعرتُ عبارةً بليغةً. ورغمَ مرورِ أكثر من مئتيْ عامٍ على ولادةِ مؤسّسِ الدين البهائيّ، فإنه لا يوجدُ بلدٌ عربيٌّ يعترفُ بالدينِ البهائيّ (عدا اعترافٍ ذي طبيعةٍ رمزيةٍ في إقليم كردستان العراق) “.

وحثّ سلوم المثقفين في العراق والعالم العربي على تحمل مسؤوليتهم التاريخية في هذا السياق بالقول “أعتقد بمسؤوليتِنا في أن نحثَّ الأجيالَ الجديدةَ على التعلّمِ من أخطاءِ الماضي، ورفضِ أيّةِ سياسةٍ لتأويلِ الاختلافات على نحوٍ يوفرُ المناخَ الملائمَ لارتكابِ الجرائمِ من قِبَل مقاولي الكراهيات. لذا ادعو الى مواجهةِ أيّ تسييسٍ للشأنِ الديني”. وحث الخطاب المثقفين على مساعدة الحراك الإحتجاجي في العراق والعالم العربي على تخيل نموذج بديل بقوله “على مثقَّفينا في العالم العربي التَّفكير المتواصل في بديل يقدِّم الخِيار الثَّالث بين “القوميَّة العربيَّة” و”الإسلام السِّياسيّ”. وهُما خِياران سيطرا على خيال النُّخَب الشَّرق أوسطيَّة خلال القرن الماضي. لا بدَّ من تقديم نموذج بديل يقوم على رابطة “مُوَاطَنِيّة”، وبشكل خاصٍّ نموذج “مُواطَنة حاضنة للتَّنوُّع الثقافي او باعثة له”، بكلِّ ما ينطوي عليه المفهوم من إبداعٍ خلَّاق واحترام الخصوصيات الثقافية القائمة على المساواة بين الافراد”.

كما أكد على جوانب أخرى من النضال من أبرزها “النضالُ من أجل توسيعِ دائرة الاعتراف بالأقليات الدينية غير المعترف بها، نحن بحاجةٍ إلى ثورةٍ ضدَّ النهجِ الحصريّ لحريةِ المعتقد، والذي يتعارضُ مع روحٍ عالميّة لحقوق الإنسان، تقومُ على احترامِ الكرامة الإنسانية للجميع” إذ يعتقد سلوم أن “الفهمُ الواسعُ لحريةِ المعتقد يعد خِيارًا قادرًا على إنصافِ التنوعِ الغني في بلدان المنطقة، والذي يُعَدُّ أفرادُهُ جميعًا أصحابَ حقوق متساوية”.  وطالب بمواجهة ما أطلق عليه “ممارساتِنا العنصرية تجاهَ الأقلياتِ العرقية، وبضمنِها التمييزُ الراسخُ ضد سودِ البشرة في بلادِنا. إذ لا يمكن أن نتعاطفَ مع ضحيةٍ في الخارج وننكرُ وجودَ المئات في مجتمعاتنا”، في إشارة الى التعاطف العربي الواسع مع (جورج فلويد) المواطن الامريكي من أصل إفريقي الذي توفي اثناء اعتقاله من قبل الشرطة. 

ويعتقد سلوم أنَّ البدايةَ لا بدَّ أن تكونَ “مع تشريعاتٍ تجرّمُ العنصريةَ بكافة أشكالِها وعلى رأسِها العنصريةُ العرقيةُ وخطاباتُ الكراهيةِ بمنصاتِها ومنابِرها المختلفة. يلي ذلك إعادةُ النظرِ في المناهج الدراسية للتأكد من خلوِّها من أيّة خطابات كراهيةٍ وإن كانت غيرَ مقصودة، مع رفدِها بما يعزز ثقافةَ التنوعِ والمساواة وتقبلِ الآخر والتي من دونِها لا يمكن إحرازُ تغيير حقيقي في مسارِ بناء دولة المواطنة”.

وختم سلوم خطابه بتحية للمناضلين عن التعددية في العالم العربي، منوها الى استمرار النضال من أجل التغيير في العراق والعالم العربي، إذ قال “لن نستسلمَ بسهولة، إذ سرعانَ ما نستيقظُ ونتكلمُ، نرفع سيفاً من زجاج في مواجهةِ مصالحِ قوى كبرى تفرضُ نظامَ التفاهة والأنانية، ونحمي الأملَ بالتغيير كشمعةٍ صغيرةٍ في هذا الظلام. صحيح أننا قد نشبِهُ دمىً صغيرةً تواجه عمالقةً على خشبة المسرح، لكنْ بقوةِ الأمل نسعى لإنقاذ تايتانيك المشرفةِ على الغرق”.

وانتهى الخطاب بعبارة تحث على الأمل إذ قال “أقول ختاما: في العالم العربي، الأملُ لم يعد خياراً، بل ينبغي أن يصبح أسلوبَ حياة”.

يشار الى ان سلوم هو أول مثقف عراقي يحصل على جائزة ابن رشد للفكر الحر والتي انطلقت  عام 1999 في العاصمة الالمانية برلين، بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاة الفيلسوف ابن رشد. وسبق أن فاز بها أبرز المفكرين العرب مثل محمد عبد الجابري وسمير أمين ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. وهي الجائزة الرابعة التي يحصل عليها الأكاديمي والمثقف العراقي بعد نيله جائزة تحالف ستيفانوس الدولية في أوسلو عام 2018 وجائزة البطريركية الكلدانية وجائزة كامل شياع لثقافة التنوير.

عرض مقالات: