اخر الاخبار

خصَّصَت الأمم المتحدة يوم 20 شباط من كل عام، مناسبةً دولية للتأكيد على ضرورة العدالة الاجتماعية والتكافل، والأهداف التي وُضعت من أجل الوصول إلى عالم خالٍ من الفوارق الشاسعة، وقائم على أساس المساواة والعدالة بين أفراده، وتخفيف نسب الفقر. وتعتبر موضوعة العدالة الاجتماعية واحدة من أهم عناصر ضمان المساواة والعدالة في توزيع الثروات والدخل وتوفير فرص متكافئة للمواطنين دون أي تمييز أو تفرقة، وهي السبيل لتعزيز الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والتنمية نحو تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين. 

وفي الوقت الذي يجري الاحتفاء بهذه اليوم في مختلف بلدان العالم تحت عنوان ‘’تحقيق العدالة الاجتماعية بالتوظيف الرسمي’’، يؤشر خبراء ومراقبون في العراق، أن العدالة الاجتماعية لم تتحقق بسبب طبيعة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، وانتشار ظاهرة الفساد التي باتت تعرقل أي إجراءات بصدد بناء نظام أكثر عدالة بين مواطنيه. فيما يؤدي غياب هذه العدالة إلى فقدان حقوق عديدة مثل العمل والضمانات والخدمات والأمان والحريات وتفاصيل كثيرة متداخلة في ما بينها.

عرقلة عجلة العدالة

الكثير من الدول باتت تهتم بتحقيق شكل من أشكال العدالة ما بين المواطنين من خلال تقليل حدة الفوارق الطبقية. كما أن استقرار الدول التي تولي هذا الموضوع اهتماما خاصا لم يأتِ من فراغ، بل من كون هذه الدول أدركت بأن ثلم العدالة سيؤدي إلى الاضطراب السياسي والاجتماعي نتيجة التهميش. 

وفي بلدان عديدة، تضع أحزاب وتيارات عديدة في برامجها السياسية والانتخابية قضية العدالة الاجتماعية، لأنها أمر مهم بالنسبة إلى المواطنين، ويمس حياتهم بشكل مباشر. أما نظام الحكم في العراق، فيمكن اعتباره نموذجا من تلك الأنظمة التي تعمل على تغييب هذا المفهوم، وهي أنظمة متخلفة جدا، لينمو سلوك الاستئثار بثروات البلاد من قبل أقلية تحكم وحولها حاشية من المستفيدين، على حساب الأكثرية من المهمشين والمسحوقين. كما تثبت ذلك الأرقام الخاصة بظاهرتيّ الفقر والبطالة على سبيل المثال. 

ويهتم مفهوم العدالة الاجتماعية بكيفية تذليل الفوارق الطبقية والتمييز بين المواطنين خصوصا في ما يتعلق بتوزيع الثروات وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، حيث أن هذه المجالات تكاد تكون في أدنى مستوياتها بالنسبة إلى المواطنين العراقيين. وبما أن العدالة الاجتماعية تعنى بكل هذه التفاصيل التي تمس حياة الناس بصورة مباشرة، فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بحقوق الإنسان. وأن تغييبها أو المماطلة في تحقيقها، يعد انتهاكا واضحا لحقوق الإنسان. 

إن هذا المفهوم تم طمسه منذ عام 2003 وحتى الآن، وهذا لا يعني بأن العدالة الاجتماعية كانت قائمة قبل ذلك، ولكن الأمر يظهر التناقضات في خطاب القوى الحاكمة بعد التغيير ووعودها بتحقيق ذلك، حتى باتت هذه القضية أمرا دعائيا لهذه القوى تستخدمه لتقديم الوعود أو الإشارة إليه في البرامج الانتخابية، لكن النتيجة الوحيدة الثابتة: أن أوضاع البلد تردت كثيرا وبحسب الإحصائيات والتقارير الاقتصادية فأن من 600 إلى 800 مليار دولار، اختفت خلال الفترة ما بين عامَي 2006 – 2014، ما عدا الفترات التي سبقت وتلت هذه السنوات، في وقت ارتفعت فيه نسبة خط الفقر في العراق إلى 31 في المائة، وهذا ما يؤكد التغييب الممنهج للعدالة الاجتماعية في العراق. 

غيابها يعرقل بناء الدولة

ويقول الباحث في الشأن الاقتصادي، أحمد خضير، إن مفهوم العدالة الاجتماعية يذهب مباشرة لقضية المساواة التامة في تطبيق القوانين والأحكام وتوفير الحقوق للجميع لتحقيق الصالح العام. كما أنه يرتبط أيضا بالمصالح الفردية للمواطنين ويعنى به، مشيرا إلى أن العدالة الاجتماعية، هي عدالة التنافس على الثروات المادية وتوزيعها بطريقة سليمة، وذلك من خلال الحقوق الممنوحة والمكتسبة للفرد.

ويوضح خضير خلال حديثه مع “طريق الشعب”، أن العيب الذي يعاني منه نظام الحكم في العراق حاليا هو “تهميش مفهوم العدالة الاجتماعية. إن القوى الحاكمة لا تأبه بخطورة غياب العدالة لأنها تستأثر بالثروات كلها وتتصارع بشأنها، فبذلك تزيد حدة الفرز الطبقي وهذا يؤدي بدوره إلى الغضب العارم والانفجار الاجتماعي ضد النظام السياسي القائم على التهميش، وهذا ما حصل فعلا في انتفاضة تشرين عام 2019 بعدما أحس غالبة العراقيين بتهميشهم وظلمهم في الوقت الذي يتحكم بثروات البلاد مجموعة قليلة من الماسكين بالسلطة، وبعض المستفيدين من حولهم”، مضيفا “أن الدول التي تتمتع باستقرار سياسي وثبات اقتصادي تهتم بقضية العدالة الاجتماعية، بينما نرى تلك التي تعاني الاضطراب تهمش هذا الجانب المهم في حياة الإنسان، نتيجة التفاوتات الاجتماعية وإخلالها بتوازن العملية برمتها. أن ردم الفجوة يكون عبر التوزيع العادل نسبيا للثروة وتوفير فرص متكافئة وسد الحاجات المعيشية الأساسية وضمان المساواة بين الجنسين”.

ويحل العراق بين فترة وأخرى في ذيل ترتيب الدول التي توفر الخدمات لمواطنيها، فلا تقدم يذكر على صعيد الخدمات والحريات العامة والبنى التحتية، وبأبسط أمثلة يمكن استعراضها من الواقع، هو النقص الحاد مثلا في الأبنية المدرسية رغم أن التعليم أحد أوجه العدالة الاجتماعية، فضلا عن نفس الحال بالنسبة للمستشفيات، فيما بات البلد يواجه أرقاما هائلة للفقر والبطالة والظواهر الاجتماعية السيئة. 

إن الإحصاءات التي تقدمها الحكومة بشأن نسب الفقر مثلا، تصطدم من حيث الدقة بالأرقام الدولية. ففي نهاية العام الماضي قالت وزارة التخطيط أن نسبة الفقر وصلت إلى 31 في المائة. بينما الخبراء الاقتصاديون والتقارير الدولية تقول النسبة أكثر من ذلك بكثير.

أزمة ليست جديدة

من جانبه، يرى الباحث السياسي أحمد جميل، بأن “العدالة الاجتماعية غائبة منذ فترة النظام الدكتاتوري المباد، حيث لم يجر توزيع الثروات بطريقة متساوية بين المواطنين كالحصول على الخدمات الصحية والتعليمية والوظيفية”. 

ويؤكد جميل أثناء حديثه لـ”طريق الشعب”، أن قضية العدالة أصبحت اليوم تتجاوز المفهوم الاقتصادي وحده، فالأمر يرتبط ارتباطا وثيقا بـ”إيجاد درجات عالية من المساواة بين الجنسين وإتاحة الفرصة للمرأة في الترشح للانتخابات بطريقة تُساويها بالرجل وليس كما يجري حاليا. كما أن ما أفرزته المحاصصة الطائفية من سوء إدارة وفساد هائل عرقلا أو غيبا العدالة الاجتماعية، فضلا عن تعثر عملية التحول الديمقراطي وتحويل العملية السياسية إلى مقاطعات طائفية وقومية لا تقوم فكرتها على أساس المواطنة والعدالة”، مضيفا “أن عملية جعلِ المواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، لن تخلق أي شعور بالغُبن أو الظُلم، ولن تدفع أي أفراد أو جماعات إلى الاحتجاج ضد حكومة أو دولة. لا يُمكن لسوء إدارة الثروات وتوزيع الفرص أن يُحقق الاستقرار في المجتمع. فالحركات الاحتجاجية منذ عام 2011 ولغاية اللحظة لم تنطلق الا بسبب ما أشرنا له، لذلك فأن استقرار البلد لا يتحقق إلا بالعدالة الاجتماعية وبما أن المواطنين يعانون في مجالات القضاء والاقتصاد والتعليم والصحة وهناك من حرم منهم حتى من الإدلاء بأصواتهم والتمتع بأوراق ثبوتية وغيرها نتيجة الحرب، فستبقى العدالة مثلومة وموقف العراق مخجلا أمام العالم في الوقت الذي قطعت دول عديدة أشواطا بهذا الجانب المهم”.

الفساد والمحاصصة

ويقول باحثون اجتماعيون وحقوقيون ان العدالة الاجتماعية في العراق، لا تزال تواجه انتهاكات كبيرة في ظل ما يفرزه نظام المحاصصة الطائفية من نتائج وخيمة، وما يرافق عمليات الفساد المستمرة من تهميش واقصاء للكثيرين. ويأتي هذا الحديث بالتزامن مع دعوات المنظمات الحقوقية والدولية والأمم المتحدة إلى تحفيز الحكومات على التصدي للظلم الاجتماعي الذي يتجسد في صور مختلفة، منها الاستبداد والاستعباد والإقصاء والقهر الاجتماعيين والحرمان والفقر.

ويقول الباحث في الشأن الاجتماعي، أركان عبد الله، إن البدء بتحقيق العدالة الاجتماعية وخصوصا في بلد مضطرب مثل العراق، يحتّم الاتجاه نحو تشريع قوانين معنية بهذا المفهوم المهم، وتفعيلها أيضا. 

وأضاف عبد الله لـ”طريق الشعب”، أن البلد يشهد “مشاكل كبيرة بتوزيع الفرص بين المواطنين، كما إن توزيع الثروة الذي ينص عليه الدستور، يتم حاليا بطريقة بعيدة عن الكفاءة والقدرات والحقوق، بل وفقا لآليات نظام المحاصصة الطائفية”. 

ورهن الباحث، تحقيق العدالة الاجتماعية بـ”إيجاد خطط للتنمية الاجتماعية”، مضيفا ان هذين الجانبين “من مسؤوليات الدولة تجاه المواطنين. وأن الأمم المتحدة أقرت اتفاقية دولية لهذا النوع من العدالة، وصادقت عليه دول كثيرة ودخلت حيز الإنفاذ عام 2010 إلا أن العراق متلكئ بشكل كبير في هذا المجال، ولا يعطى فيه الحق بالعدالة للكثير من الفئات الاجتماعية”. 

وتابع أن “أرقام التهميش والفقر والبطالة والعوز عالية جدا. وجميعها تتعلق بتوفير فرص العمل والرعاية الصحية والوظائف وغيرها”. 

وبيّن قائلا: ان “تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء تشير إلى ان عدد سكان العراق بلغ حوالي 40 مليون نسمة، يقابلها نسب فقر (بحسب تقديرات البنك الدولي) تصل إلى 22.5 بالمائة في العام 2019”. 

ويؤكد مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية، مظهر محمد صالح، أن نسبة الفقر حاليا ارتفعت الى “أكثر من ٣٠ في المائة، حيث اضيف أكثر من مليوني عائلة الى هذه النسبة، بسبب جائحة كورونا وتداعياتها”.

الدولة فشلت في مسؤولياتها! 

من جانبه، تطرق الحقوقي فيصل اللامي، إلى مسؤولية الدولة عن ضمان حقوق الأفراد والجماعات الاجتماعية، وتوفير الفرص والإمكانيات الى الجميع على قدم المساواة. وأردف كلامه أن “ادارة الدولة تتعامل مع المواطن على اعتباره عبئا عليها”. وشدد اللامي في حديثه لـ”طريق الشعب”، على أن “ايجاد القوانين اللازمة لتحقيق العدالة والاجتماعية وتفعيلها يضمنان للفرد أن يحقق ذاته في ظل مجتمع يتمتع بالعدالة ويلجأ اليها بحال تعرضه الى الظلم”. 

وتابع ان “المجتمع الدولي خطا خطوات مهمة بهذا الجانب، وأمام العراق تحديات كبيرة في ظل الانتهاكات المستمرة وغياب الحقوق”. 

وأكد المتحدث أن “المجتمع العراقي حاليا وللأسف الشديد يحلم بالعدالة الاجتماعية، بل هو يرى حقوقه احلاما غير قابلة للتحقق في ظل مناخ يعاني الكثير من التعدي والتجاوز على حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية، بدءا من توفير الفرص واحترام التنوع، وصولا الى التهميش لفئات كبيرة بسبب المحاصصة”. 

ولفت اللامي الى أنه “حتى خلال عمل القضاء نرى أن المتنفذين يفلتون من الحساب بينما المواطن اصبح فاقدا للثقة بمؤسسات الدولة”. 

وخلص الى أن “حرية التعبير ايضا تتعرض للانتهاك والعمل مستمر على التضييق على حرية الصحافة والرأي. بينما تعمل الجهات التشريعية على سن قوانين لحماية السياسيين من حق الصحفيين بالتعبير والسؤال، بدلا من القيام بالعكس”.

اقتصاد متخلف يعرقلها

ويفتقد النظام السياسي في العراق العدالة الاجتماعية، كون اقتصاده يعتمد بالدرجة الأساس على الاستهلاك والاستيراد حيث لا تتفق العدالة الاجتماعية مع الاقتصاد الريعي الذي يعمل بهذه الشاكلة. بينما نرى إصرارا من قبل القوى الحاكمة على هذا النهج. 

ويقول الخبير الاقتصادي عماد تويج لـ”طريق الشعب”، أن الصورة الأبرز لغياب العدالة الاجتماعية في العراق هي تمتع فئة محدودة بالثروات من خلال السياسة، بينما أوجدت في محيطها عددا محدودا أيضا من المستفيدين بالامتيازات، في مقابل حرمان الغالبية من حقوقهم بالتمتع بالثروات التي كفل الدستور توزيعها بالتساوي، لذا باتت العدالة الاجتماعية مجرد نصوص مذكورة وتحولت ثروات البلاد إلى أداة سياسية تستغلها القوى الحاكمة لتوجيه الناس حسب مصالحها وشراء الولاء من البعض. وهذا بالتحديد ينمو ويتطور في ظل الدولة الريعية، لأن العمل يحصر بيد السلطة ولا توجد مشاريع استثمارية ولا قطاع خاص ولا سلطات نزيهة”. 

ويضيف تويج قائلا: “تقول بعض التقديرات أن أكثر من ثلثي الشعب لا يستفيدون من ثروات البلاد. أما الآخرون ففائدتهم تأتي من ارتباطهم بالحكومة ولهذا فأن نسب الفقر والبطالة في زيادة مستمرة، ووصلت إلى أعلى مستوياتها فيما يزيد التعداد السكاني أيضا، وما زال الوضع بالنسبة للعدالة الاجتماعية في أردأ شكل يمكن رؤيته في العراق”.

أوجه أخرى للعدالة

ومن وجهة نظر المحامي علي عيسى، فإن العدالة الاجتماعية غابت عن ملفات إنسانية مهمة جدا، ولم تتخذ الحكومات خطوات جادة لتسهيل إعادة ملكية الاقليات الدينية كافة، وخصوصا في المناطق التي تم تهجيرهم منها قسراً من قبل عصابات داعش الارهابية، وكذلك أن الاجراءات التي اتخذتها الحكومة في ما يتعلق بتعويض ضحايا الاقليات من جراء العمليات الارهابية والانتهاكات التي قامت بها عصابات داعش الارهابية لا ترتقي الى المستوى المطلوب.

ويوضح عيسى لـ”طريق الشعب”، أنه “على الرغم مما تضمنه الدستور العراقي الدائم لسنة 2005 في مواده (14، و 16) على مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص لجميع العراقيين. إذ نصت المادة (14) على أن (العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي). كما نص في المادة (16) على أن (تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين وتكفل الدولة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك)، إلا أنه لم يلمس أي تقدم في تطبيق المراجعة القانونية للتشريعات المحلية على الرغم من تقديم مشروع قانون الحماية من العنف الاسري في مجلس النواب والذي تم قراءته قراءة اولى”. 

ويضيف المحامي أن “حق التعليم في العراق يعتبر مجانيا بموجب المادة 34 من الدستور وكذلك قانون وزارة التربية رقم (22) لعام 2011 في الفصل الرابع المادة التاسعة، مازال يواجه الكثير من التحديات، فعلى الرغم من التخصيصات الكثيرة في الموازنات المتلاحقة للدولة، وصدور قانون محو الأمية رقم 23 لسنة 2011، إلا أن واقع التعليم مازال قاصراً عن تلبية متطلبات الحق في التعليم المكفول دستوريا. ان هذه الأمور هي عثرات حقيقية في وجه العدالة الاجتماعية، ولا أظن أن القوى الحاكمة يمكن أن تقوم بأي إجراء لتحسين الأوضاع أو الاهتمام بموضوعة هذه العدالة اللازمة والهامة لحياة المواطنين”.

عرض مقالات: