تمثل الضرائب مورداً أساسياً لدعم الموازنة العامة وتنمية الاقتصاد، لكن التهرب منها ما زال واحداً من أبرز التحديات التي تواجه الدولة؛ فالكثير من المؤسسات الاهلية، وفي مقدمتها الكليات والجامعات، تتقاعس عن أداء التزاماتها المالية، وسط تضارب تشريعي وغياب واضح لرقابة وزارة التعليم العالي والجهات المختصة.
ويرى مختصون، أن استمرار هذا الوضع لا يضر فقط بالموازنة العامة، انما ينعكس بشكل مباشر على حقوق التدريسيين والعاملين، ويؤثر حتى على ثقة المواطنين بالمنظومة الضريبية.
إشكالية الكليات الأهلية
وفي هذا الشأن، اكد عضو اللجنة العليا لتنفيذ الإصلاح الضريبي خالد الجابري، وجود إشكالية مزمنة في ملف الكليات الأهلية تتعلق بآليات التحاسب الضريبي، موضحاً أن جذور المشكلة تعود إلى التعارض بين التشريعات القديمة والقرارات اللاحقة.
وقال الجابري في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “قانون التعليم الجامعي الأهلي الصادر عام 1997 نصّ صراحةً على إعفاء الكليات الأهلية من جميع أنواع الضرائب والرسوم، إلا أن قرار سلطة الائتلاف بعد عام 2003 ألزم جميع المهن والأنشطة بدفع الضرائب، لكن الكليات الأهلية لم تُحاسب بموجبه، ما أدى إلى تضارب في التفسير القانوني بين الهيئة العامة للضرائب وإدارات هذه الكليات”.
وبيّن أن “الجدل القانوني انتهى إلى اعتبار قانون الكليات الأهلية مُقيّداً لقرار سلطة الائتلاف، وبالتالي استمرت هذه المؤسسات التعليمية خارج نطاق الضريبة، إلى أن جرى تعديل القانون عام 2016، حيث قرر المشرّع رفع الإعفاء وإخضاع الجامعات والكليات الأهلية للضرائب والرسوم كافة، فضلاً عن إلزامها بمراجعة ديوان الرقابة المالية لتدقيق حساباتها”.
وأضاف أن “اللجنة العليا للإصلاح الضريبي وضعت آليات شفافة لتطبيق التحاسب الضريبي على الجامعات الأهلية، غير أن بعض هذه المؤسسات لا تزال تواجه إشكالات في التنفيذ، خاصة فيما يتعلق بضريبة الاستقطاع المباشر من رواتب الأساتذة المنتدبين من الجامعات الحكومية أو الأهلية منذ عام 2016، حيث لم يتم استيفاؤها الى الان، رغم أن القانون يحمّل الكلية مسؤولية الالتزام والتحصيل”.
وأشار الجابري إلى أن “اللجنة وضعت آلية خاصة لمعالجة هذا الملف وتم التوصل إلى اتفاق مع إدارات الكليات، إلا أن نسبة الاستجابة ما زالت محدودة، ولم تتجاوز 10%، الأمر الذي دفع الهيئة العامة للضرائب إلى اتخاذ إجراءات قانونية بحق الكليات الممتنعة، باعتبارها حالات تهرب ضريبي”.
وأوضح أن “جوهر التهرب الضريبي يعود إلى غياب الوضوح في العلاقة بين المكلف والهيئة العامة للضرائب، نتيجة قوانين قديمة لا تتماشى مع تطورات الاقتصاد الحالي، وهو ما دفع اللجنة العليا لتنفيذ الإصلاح الضريبي إلى تبني قرار بإعادة صياغة التشريعات ذات الصلة”.
ولفت الجابري إلى أن “اللجنة أطلقت آلية التقدير الذاتي، التي تستند إلى قرار مجلس الوزراء، وتعطي الثقة الكاملة للمكلف بالتصريح عن إيراداته ومصروفاته مدعمةً بالوثائق، مقابل اعتماد آلية التدقيق اللاحق للتأكد من صحة البيانات من خلال فواتير مصرفية، أو مستندات جمركية، أو إجازات استيراد مرقمة، وبقية الأدلة الرسمية”.
وأكد أن “هذه الآلية أنهت مرحلة التقديرات الضبابية التي كان يعتمدها بعض المخمّنين، وأعطت للمكلف دوراً مباشراً في الإفصاح عن ذمته المالية، على أن يجري التدقيق عبر كوادر خبيرة ومحترفة، بما يطمئن المستثمرين ويعزز بيئة العمل في العراق”.
وكشف عضو اللجنة العليا أن “تطبيق هذه الآلية أسهم في زيادة عدد الشركات التي بادرت للتسجيل الطوعي بنسبة 300%، ما يعكس أن الكثير منها كانت متحفظة على التعامل مع الهيئة العامة للضرائب، لكنها عادت طوعاً بعد اعتماد آلية التدقيق اللاحق”.
وفي السياق ذاته، شدّد الجابري على أهمية تعزيز الشمول المالي عبر تطوير النظام المصرفي وربطه بالدفع الإلكتروني، مبيناً أن “نجاحات تحققت في مجال الدفع الإلكتروني وربط الهيئة العامة للضرائب بهذا النظام، غير أن تحقيق الشمول المالي الكامل يتطلب حسابات مصرفية فاعلة، وهو ما يعمل البنك المركزي على بنائه ضمن خطة إصلاح شاملة لتعزيز الثقة بين المصارف والمواطنين”.
وختم بالقول ان “الإيراد الضريبي هو نتيجة للنشاط الاقتصادي، والركيزة الأساسية هي دعم هذا النشاط عبر تحديث المنظومة القانونية والمالية، وبناء الثقة المتبادلة بين المكلفين والهيئة العامة للضرائب، وبين المواطنين والنظام المصرفي”
غياب دور وزارة التعليم
من جهة أخرى، انتقد نقيب الأكاديميين السابق، مهند هلال، امتناع أغلب الكليات الأهلية عن أداء التزامها القانوني بدفع نسبة 3% من إيراداتها السنوية إلى الموازنة العامة، وفق ما نص عليه القانون، مؤكداً أن هذا التقاعس يمثل شكلاً من أشكال التهرب المالي ويؤثر سلباً على حقوق التدريسيين والعاملين في تلك المؤسسات.
وقال هلال في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “الكليات الأهلية ملزمة قانوناً بتسديد ما نسبته 3% من إيراداتها السنوية إلى موازنة الدولة عبر وزارة التعليم العالي، إلا أن معظم هذه الكليات لم تلتزم بذلك تحت ذرائع متعددة، مع أن المبلغ يعد يسيراً قياساً بحجم إيراداتها الكبيرة ولا يشكل عبئاً عليها”.
وأضاف أن “التخلف عن الإيفاء بهذا الالتزام لا يقتصر على حرمان الدولة من إيرادات عامة، إذ ينعكس أيضاً على حقوق الأساتذة والتدريسيين في تلك الكليات، فيُحرم الكثير منهم من التسجيل في الضمان الاجتماعي واحتساب حقوقهم التقاعدية عند إنهاء مسيرتهم الأكاديمية، نتيجة عدم تسديد الكليات لالتزاماتها القانونية”.
وشدّد هلال على أن “هذه النسبة تُعدّ مالاً عاماً يدخل ضمن الموازنة العامة للدولة، ومن ثم فهي تخضع لرقابة الأجهزة المختصة مثل ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، وعلى هذه الجهات تفعيل دورها في محاسبة الكليات الممتنعة عن الدفع”.
وأشار إلى أن “غياب المتابعة والرقابة من قبل وزارة التعليم العالي سمح باستمرار هذا الخلل، الأمر الذي يجعل الوزارة مسؤولة عن عدم إلزام تلك الكليات بتطبيق القانون”، لافتاً إلى أن “الإجراء الطبيعي تجاه المؤسسات الممتنعة يجب أن يتضمن سحب الاعتراف والإجازة منها أو غلقها، لضمان خضوع جميع الكليات الأهلية لشروط الدولة المالية والقانونية”
ما سبب التهرب الضريبي؟
الى ذلك، أكد الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي أن مشكلة التهرب الضريبي لا تقتصر على العراق وحده، بل هي ظاهرة عالمية موجودة في مختلف الدول لكن بدرجات متفاوتة، مشيراً إلى أن أسبابها في العراق ترتبط بضعف العدالة الضريبية، والقصور المؤسسي، والفساد الإداري.
وقال المرسومي في حديث لـ"طريق الشعب"، إن “العدالة الضريبية تمثل عاملاً أساسياً في التزام المكلفين، فحين يشعر المواطن بأن الضرائب المفروضة لا تتناسب مع دخله أو أنها غير عادلة، تتسع أمامه مساحة التهرب. كما أن ضعف السلطات الضريبية في احتساب الوعاء الضريبي والدخل الخاضع للضريبة، فضلاً عن غياب الرقابة الفعالة، يفتح المجال أمام التلاعب والتحايل”.
وأضاف أن “عدم وضوح القوانين الضريبية وتخلفها عن مواكبة التطورات الاقتصادية، إلى جانب غياب الحوكمة وضعف الشفافية، كلها عوامل تعزز ظاهرة التهرب، حيث يُترك الأمر أحياناً لاجتهادات شخصية أو تفاهمات فردية بين المكلف والموظف الضريبي”.
وأشار المرسومي إلى أن “الفساد يمثل أحد أبرز أسباب التهرب، إذ قد يلجأ بعض المكلفين إلى دفع عمولات أو رشى لموظفين في السلطة الضريبية مقابل تقليص الضريبة المستحقة أو حتى إلغائها بالكامل”.
ولفت إلى أن “ضعف الثقة بين المواطن والسلطة الضريبية يضاعف من حجم المشكلة، فالمواطن لا يعرف على وجه الدقة أين تذهب أمواله الضريبية، بينما في الدول المتقدمة غالباً ما تُخصص ضرائب الدخل لصناديق خاصة تنفق على خدمات محددة يختارها المواطنون، كالبنية التحتية أو الصحة أو التعليم، وهو ما يعزز ثقافة الالتزام الضريبي لديهم”.
وفي ما يتعلق بإخضاع الكليات والجامعات الأهلية للضرائب، أوضح المرسومي أن “إشكالية عدم التحاسب منذ عام 2016 على ضريبة الاستقطاع المباشر من الأساتذة تمثل نموذجاً لضعف السلطات الضريبية في العراق”، مبيناً أن “استجابة الكليات لإجراءات اللجنة العليا للإصلاح الضريبي لم تتجاوز 10%، وهو رقم متدنٍ يعكس قصور الأجهزة الضريبية عن فرض القانون ومتابعة الالتزامات”.
وتساءل المرسومي: “لماذا مُنحت هذه الجامعات والمستشفيات الأهلية إجازات تأسيس دون وجود آلية صارمة لمتابعة تحاسبها الضريبي؟ وهل تترتب فوائد وغرامات تراكمية على المبالغ غير المسددة كما هو معمول به في بقية دول العالم؟”، مؤكداً أن “المسؤولية في المقام الأول تقع على عاتق السلطة الضريبية نفسها، قبل أن تُحمَّل للمؤسسات التعليمية أو الصحية الخاصة”.
يُذكر أن الحكومة الحالية قد شكلت لجنة عليا للإصلاح الضريبي، ضمت في صفوفها عدداً من الخبراء والمختصين في هذا الشأن.