يمثل شارع الرشيد، الذي يتجاوز عمره قرناً من الزمان، أحد أبرز المعالم التاريخية والحضرية في بغداد، وذاكرة نابضة تختزن ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعاصمة، إلا أن الشارع، الذي كان يوماً القلب التجاري والثقافي للمدينة، يعاني منذ عقود من الإهمال والتراجع العمراني، ما جعله محوراً دائماً للنقاش حول جدوى مشاريع التأهيل وإعادة الإحياء.
ومع انطلاق جولة جديدة من أعمال التطوير التي أعلنتها أمانة بغداد مؤخراً، تباينت المواقف بين مختصين في العمارة يؤكدون أن ما يجري يفتقر إلى الأسس العلمية ويهدر الأموال دون تحقيق الأهداف المرجوة، وبين جهات رسمية ترى أن المشروع يمثل خطوة متكاملة لإعادة الشارع إلى صورته الحضارية.
حلة جديدة تليق بتاريخ العاصمة
من جهته، كشف مسؤول الإعلام في أمانة بغداد عدي الجنديل لـ "طريق الشعب"، عن انطلاق أعمال تطوير متكاملة في شارع الرشيد، بهدف إعادة الشارع إلى صورته الحضارية والتاريخية التي تليق بالعاصمة.
وأوضح الجنديل أن المرحلة الأولى من المشروع تشمل المقطع الممتد من ساحة الميدان وصولاً إلى تمثال الرصافي، مشيراً إلى أن الأعمال لا تقتصر على الواجهات الخارجية للمباني، بل تشمل البنى التحتية بالكامل، بما في ذلك شبكات المياه والمجاري والكهرباء والاتصالات، بالإضافة إلى استحداث فوهات الدفاع المدني.
وأضاف أن المشروع يشمل تطوير وتأهيل كامل لأكتاف الشارع ورصفه باستخدام مادة البازلت التركي، مع إضافة مسارات جديدة تشمل مناطق الترامبول لتعزيز الحركة والتنقل في الشارع.
وبخصوص تمويل إعادة تأهيل المباني المتضررة، أكد الجنديل أن الأمانة تعمل على توفير الموارد اللازمة لإعادة بناء المباني بما يتوافق مع الطابع التاريخي للشارع، بهدف الحفاظ على هوية بغداد العمرانية والثقافية.
وأشار إلى أن الأعمال تهدف إلى تقديم شارع الرشيد في حلة جديدة تليق بتاريخ العاصمة ومكانتها، مشدداً على أن المشروع يشمل كافة عناصر الشارع من البنى التحتية إلى الواجهات والمرافق العامة، لضمان تطويره بشكل متكامل ومستدام.
يفتقد الاساس العلمي!
يقول المهندس علي أمير، رئيس فريق "معماريون"، إن أعمال تأهيل شارع الرشيد ما زالت تعاني من التلكؤ وهدر المال دون تحقيق النتائج المرجوة، مبينا ان "المشروع يُنفذ بطريقة لا تستند إلى أسس صحيحة لإعادة التأهيل، إذ يجري التركيز على الجوانب الشكلية أكثر من المضمون الوظيفي".
ويضيف أمير في حديث لـ ’"طريق الشعب"، أن الشارع "ليس مجرد واجهة عمرانية، بل هو قلب بغداد التاريخي، ومن الضروري أن يُعاد إليه دوره الحيوي عبر معالجة مدروسة وشاملة، لا عبر حلول مؤقتة أو سطحية. كان الأجدر أن تُستثمر الموارد الكبيرة المرصودة للمشروع بطريقة علمية تضمن الحفاظ على قيمة الشارع وإعادة الحياة إليه".
ويشير أمير إلى أنه أجرى جولات عديدة في شارع الرشيد رفقة معماريين أجانب، لتعريفهم بالعمارة البغدادية وفرادتها، مؤكداً أن الشارع يمتلك قيمة تاريخية عالمية يجب الحفاظ عليها بعناية ودقة.
أعمال ترقيعية!
ويعلق أستاذ العمارة الهندسية بلال سمير على مشاريع التأهيل، قائلا: أن "فكرة الانطلاق من مراكز المدن أو المناطق القديمة لإعادة تأهيلها تُعد خطوة مهمة جداً للحفاظ على هوية المدن"، واكد إن هذه المقاربة هي الأسلوب الذي تتبعه معظم المدن في العالم لتثبيت ملامحها التاريخية وإعادة إحياء روحها العمرانية والاجتماعية.
لكن سمير يستدرك في تصريحه لـ"طريق الشعب"، قائلاً أن "المختصين في مجال العمارة، وخاصة المتخصصين في إعادة التأهيل والتوثيق المعماري، غالباً ما يعبرون عن عدم رضاهم عن طبيعة الأعمال المنفذة حالياً"، مشيراً إلى وجود سببين رئيسيين لذلك: "التركيز على الواجهات فقط، حيث يجري الاهتمام بالشكل الخارجي للمباني دون الالتفات إلى إعادة تأهيلها وظيفياً".
ويضيف أن المباني يجب أن تُعاد إليها الحياة من خلال استخدامات جديدة، سواء عبر استعادة الوظائف التقليدية التي اعتاد عليها سكان بغداد مثلاً، أو عبر إدخال وظائف حديثة، المهم أن تكون هذه المباني فاعلة من الداخل لا مجرد قوالب جميلة من الخارج". اما السبب الاخر فيتعلق بـ"طرق التنفيذ ومواد البناء، حيث لا تُطبق بشكل كامل المعايير العالمية في إعادة التأهيل، مثل استخدام نفس المواد الأصلية أو التعامل بعناية مع الإضافات المعمارية".
يؤكد أن ما يجري حالياً يبتعد عن الدقة المطلوبة في هذا النوع من المشاريع.
ويردف سمير كلامه بضرورة "النظر بإيجابية إلى مثل هذه المبادرات: بدل أن نلعن الظلام، لنشعل شمعة"، مضيفا أن القبول بهذه المشاريع بحدها الأدنى قد يكون مبرراً في ظل الإمكانيات الحالية، لكن الإشكال الحقيقي يظهر عند الكشف عن ضخامة الأموال المصروفة عليها، ما يثير تساؤلات حول سبب عدم استثمار تلك الموارد في تطبيق الأساليب العلمية الدقيقة لإعادة التأهيل.
وختم بالقول إن الفكرة في جوهرها جيدة وتمثل الطريق الصحيح لإحياء الهوية، لكن ذلك يتطلب صياغة استراتيجية واضحة تحدد الغاية من المشروع، مع توفير الأدوات المادية والبشرية اللازمة لإنجازه وفق معايير تحفظ القيمة التاريخية والمعمارية وتضمن استدامتها.
التاريخ البغدادي مغيب
وفي السياق، قال أ.د. جاسم الدباغ، المعماري وعميد كلية الهندسة بجامعة النهرين سابقاً، أن الحديث عن مدينة بغداد اليوم بمعزل عن جذورها التاريخية لا يمكن أن يفي بمتطلبات إنقاذها من التدهور العمراني الذي تشهده. وشدد على أن استعادة ملامح العمارة البغدادية يستلزم العودة إلى مختصر من تاريخها الممتد لآلاف السنين.
وأوضح الدباغ لـ "طريق الشعب"، أن "جذور البيت البغدادي تمتد عميقاً في التاريخ، وصولاً إلى مساكن الأهوار التي تعود إلى عشرة آلاف عام، ومنها إلى البيت السومري الذي أسس لنمط معماري ظل مستمراً عبر العصور"، وأضاف أن هذا النمط تطور ببطء شديد، متأثراً باحتكاك العراق بالمحتلين، لكنه حافظ في جوهره على خصوصيته الفريدة في تشكيل البيت، ثم المحلة، فالمدينة.
وأشار إلى أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية كان لها أثر بالغ على هذا التراث، حيث أصبحت البيوت البغدادية القديمة والأحياء التراثية مأوى للعائلات الفقيرة والمحتاجة. ورغم قيمتها التاريخية، فإن سوء الاستعمال وقلة الموارد ساهم في تدمير هذه الأحياء الحيوية وتشويه معالمها.
وحمل الدباغ بعض غير المختصين وضعيفي الكفاءة مسؤولية كبيرة في ما أصاب العمارة المحلية من أضرار، مؤكداً أن غياب الرؤية المعمارية الرصينة فتح الباب أمام اجتهادات خاطئة. ولفت إلى أن بعض الآراء المعمارية التي لا تحترم الموروث البغدادي ساهمت في إضعاف هوية المدينة، خصوصاً عبر استنساخ أنماط أوروبية بالية تُقدَّم تحت مسمى "العمارة الكلاسيكية"، من دون أي ارتباط بروح المكان أو احتياجاته.
وختم الدباغ بالتأكيد على أن صيانة الموروث المعماري لبغداد وتطويره لا ينبغي أن يكون مجرد شأن تراثي، بل هو ركيزة أساسية لتأسيس عمارة مستقبلية أصيلة، قادرة على الجمع بين الحداثة والهوية المحلية.