اخر الاخبار

رغم محاولات الإصلاح المتواصلة، لا تزال العلاقة بين المواطن والنظام المصرفي تعاني من أزمة ثقة متجذرة، تُعبر عنها معدلات الاكتناز المرتفعة التي تُبقي أكثر من 80 في المائة من الكتلة النقدية خارج الدورة المصرفية، بحسب تقديرات رسمية.

تنوع السوق المصرفية

يقول المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، د. مظهر محمد صالح، أن أزمة الثقة بين المواطن والقطاع المصرفي ليست وليدة اللحظة، بل هي متجذرة في التاريخ المالي للبلاد، مشيراً إلى أن "نحو 80 إلى 90 في المائة من الكتلة النقدية لا تزال متداولة خارج النظام المصرفي الرسمي".

ويضيف صالح في حديث خص به "طريق الشعب"، أن "أحد أبرز الأسباب وراء هذا الوضع هو الانقسام الواضح في السوق المصرفية، حيث تنقسم إلى ثلاثة أطراف رئيسية: المصارف الحكومية، والمصارف الأهلية، والمصارف الأهلية ذات الشراكات الأجنبية"، مشيرا إلى أن "بعض هذه المصارف تعرضت سابقًا لعقوبات أو مقاطعات، ما أدى إلى زيادة حالة الانقسام داخل القطاع".

ويبين أن "هذا التعدد والانقسام أضعف من فاعلية النظام المصرفي"، مؤكدا أن "الإصلاح المصرفي اليوم يجب أن يركز على توحيد الجهود وخلق سوق مصرفية موحدة، تقوم على أسس تنافسية عادلة ورؤى مشتركة بين جميع أطراف السوق".

ويشدد المستشار على أهمية توظيف التكنولوجيا المالية بالشكل الصحيح من خلال ما يُعرف بـ "الفنتك، لتوسيع الشمول المالي وتمكين الفئات الهشة والفقيرة من الوصول إلى الخدمات المالية"، مشيرا الى أن "هذه الفئات تضطر حاليا إلى اللجوء إلى الأسواق الموازية للاقتراض بأسعار فائدة باهظة، قد تصل إلى أكثر من 30 في المائة، بل وقد تتجاوز 70 في المائة سنويا في بعض الحالات"، وهو أمر وصفه صالح بـ"غير المعقول والمكلف للغاية".

ويشير إلى أن "المصارف الرسمية، سواء الحكومية أو الأهلية، تقدم خدمات مالية بفوائد معروفة ومعقولة، ما يجعل الكلفة على المقترض أقل بكثير". لكنه أقر في الوقت نفسه بأن هذه المصارف مطالبة أيضًا بتطوير أدائها وزيادة ثقة المواطن بها، من خلال تحسين الخدمات وتبني سياسات أكثر شفافية وكفاءة.

ويخلص صالح الى القول إن "الإصلاح المصرفي المطلوب يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية: إنهاء الانقسام داخل القطاع المصرفي الأهلي، ردم الفجوة بين المصارف الأهلية والحكومية، وأخيرًا، توحيد السوق المصرفية ضمن إطار تنافسي مشترك.

نظام "عقيم"!

من جهته، يذكر المحلل الاقتصادي حسنين حسن، أن "النظام المصرفي في العراق، بخاصة الحكومي، يعاني من حالة من العقم وعدم الفاعلية"، مشيراً إلى أن "فوضى المراجعات وعدم التنظيم في المصارف أسهمت في ترسيخ صورة نمطية سلبية حول مدى أمان هذا القطاع".

ويعزو حسن في حديث لـ "طريق لشعب"، فقدان ثقة المواطنين بالمصارف الى "عملية تغيير سعر الصرف والحملات المتتالية، التي شملت آلية صرف الدولار وصعوبة استرداد الودائع"، معتقدا أن "هذه المشاكل تفاقمت مع المخاوف من احتمال فرض عقوبات أمريكية على النظام المصرفي في العراق بين فترة وأخرى".

ويجد ان "هذه العوامل مجتمعة خلقت جوا من عدم الاطمئنان لدى المواطنين، ما دفعهم إلى اعتبار بيوتهم المكان الأكثر أمانًا لحفظ أموالهم، بدلاً من إيداعها في المصارف".

إعادة هيكلة القطاع المصرفي

فيما يتحدث الخبير الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي عن "انطلاق خطة إصلاح شاملة يقودها البنك المركزي العراقي، تهدف إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي وفق المعايير الدولية، وذلك بالتعاون مع شركة "Oliver Wyman" العالمية".

ويقول الشيخلي لـ "طريق الشعب"، إنّ الخطة تمتد حتى العام 2028، وتُنفذ على مراحل نصف سنوية، وتشمل المصارف الخاصة التجارية والإسلامية، التي ستكون أمام ثلاثة خيارات الاستمرار مع الالتزام الكامل بالمعايير المطلوبة، أو الاندماج مع مصرف آخر، أو التصفية الطوعية والانسحاب من السوق.

ويضيف أن البنك المركزي يفرض رسوماً غير قابلة للاسترداد على المصارف التي تختار الاستمرار أو الاندماج: 2.4 مليون دولار سنوياً لحالة الاستمرار، و1.2 مليون دولار في حال الاندماج، بينما تُعفى المصارف التي تقرر التصفية الطوعية من أية رسوم.

مؤسسات غير مستقرة

ويفسّر الناشط السياسي علي القيسي، مشكلة فقدان الثقة بين المواطن العراقي والمصارف بأنها "ليس مجرد خلل إداري أو تقني، بل هو نتاج مباشر لتدهور المنظومة السياسية المتنفذة التي انعكست على جميع مفاصل الدولة، بما في ذلك النظام المصرفي".

ويقول القيسي لـ "طريق الشعب"، أن "الفساد المستشري، وغياب الشفافية، والصراعات السياسية التي عطلت بناء مؤسسات مستقرة، كلها عوامل ساهمت في ترسيخ قناعة لدى المواطن بأن المصارف، شأنها شأن باقي المؤسسات، غير موثوقة، وغير قادرة على ضمان حقوقه المالية".

ويبين بالقول "حين يرى المواطن أن بعض المصارف تُغلق فجأة بسبب عقوبات خارجية أو شبهات فساد، وأن الوصول إلى أمواله قد يتطلب أسابيع من الإجراءات، فمن الطبيعي أن يفضل الاحتفاظ بنقده في بيته على أن يغامر به داخل مصرف غير مستقر".

وطبقا للقيسي فإن "غياب الإصلاح السياسي الحقيقي وانعدام المحاسبة، جعل من النظام المصرفي مرآة للفوضى السياسية، وهذا ما أضعف دورة المال في السوق، وقيد حركة الاقتصاد الوطني".

ويختتم القيسي حديثه قائلاً: "إذا أرادت الدولة إعادة الثقة بالنظام المصرفي، فعليها أولاً إصلاح النظام السياسي ومحاربة الفساد بجدية، ثم التوجه نحو تحديث البنية المصرفية، وتحقيق الشمول المالي كجزء من استراتيجية شاملة لإعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة".

عرض مقالات: