اخر الاخبار

في الوقت الذي تتزايد فيه حالات الإصابة باضطراب طيف التوحد في العراق، يواجه الأطفال المصابون وأسرهم واقعًا صعبًا، تغيب فيه الرؤية الحكومية الواضحة، وتفتقر فيه المؤسسات التعليمية والصحية إلى الجاهزية للتعامل مع هذه الفئة.

ورغم الجهود الفردية ومبادرات منظمات المجتمع المدني، تبقى المعاناة مستمرة في ظل غياب إحصاءات رسمية دقيقة، وتأخر في التشخيص، وندرة في المراكز المتخصصة، ما يفاقم من عزلة الأطفال المصابين ويحدّ من فرصهم في التعليم والاندماج المجتمعي.

التعامل مع 2700 حالة

وقال مدير المركز، نعمة جلود التميمي، في تصريح صحفي، إن "الحالات المسجلة تخضع حالياً لبرامج علاج متكاملة، تشمل التشخيص المبكر، والعلاج السلوكي، والتأهيل النطقي والحركي، إلى جانب المتابعة الدوائية والدعم النفسي لكل من الطفل وأسرته".

واضاف التميمي أن المركز، الذي تأسس عام 2014، تعامل حتى الآن مع أكثر من 2700 حالة إصابة باضطرابات التوحد، موضحاً أن "العديد من الأطفال تمكنوا من تجاوز مراحل التوحد الشديدة بنجاح، وتم لاحقاً دمجهم في المسارات التعليمية والاجتماعية، بعد تحقيق تحسّن واضح في قدراتهم".

وكشفت إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء عن وجود أكثر من 350 ألف طفل يعانون من إعاقات في الفهم والإدراك في العراق، وسط تحديات كبيرة تواجههم وأسرهم، في ظل غياب الوعي المجتمعي، وقلة البرامج الحكومية المتخصصة.

لا خطط حكومية فاعلة

من جهتها، أكدت هبة أسعد، أخصائية في علم النفس، أن طيف التوحد يُعتبر من أكثر الاضطرابات تعقيدًا، حيث يواجه الأطفال المصابون به وأسرهم صعوبات كبيرة نتيجة غياب الخطط الحكومية الفاعلة، بالإضافة إلى انخفاض الوعي المجتمعي بطبيعة الحالة.

وأعربت هبة في حديث لـ "طريق الشعب" عن أسفها لكون أغلب حالات التوحد تُكتشف في مراحل متأخرة، ما يقلل من فرص التدخل المبكر ويؤثر سلب على التطور الاجتماعي والمعرفي للطفل.

وأشارت إلى أن "الوصمة المجتمعية ما زالت تلاحق الأطفال المصابين بالتوحد، كما تعاني أسرهم من عزلة نفسية واجتماعية بسبب الجهل بطبيعة الاضطراب"، مؤكدة ضرورة إطلاق خطة وطنية شاملة تشمل الكشف المبكر، وتدريب الكوادر التعليمية، وتنظيم حملات توعوية تستهدف المدارس ووسائل الإعلام.

وبالحديث عن العلامات المبكرة لاضطراب التوحد، تبين انه "يمكن ملاحظتها من خلال القصور في مهارات التواصل، وغياب التواصل البصري، صعوبة في فهم مشاعر الآخرين، وقلة الرغبة في التفاعل واللعب مع الأقران.

وخلصت هبة أسعد الى التأكيد على أن "التوحد ليس مرض نفسيا، بل حالة نمائية تتطلب فهماً علمي، وبيئة داعمة، وإرادة مجتمعية تؤمن بحق كل طفل في التعليم، والاندماج، والرعاية المناسبة".

مطالبة بمنهاج دراسي خاص

الى ذلك، دعت ميسون الحديدي، رئيسة مركز دار العطاء للتوحد وذوي الاحتياجات الخاصة، إلى إعداد منهاج دراسي خاص بأطفال التوحد وذوي الاحتياجات التعليمية المختلفة، يتم اعتماده وتعميمه على جميع المدارس التي تضم صفوفًا مخصصة لهذه الفئات.

وفي حديثها لـ "طريق الشعب"، أوضحت الحديدي أن "أطفال التوحد الذين يجدون صعوبة في الاندماج مع أقرانهم داخل المدارس، يواجهون كذلك تحديات في دراسة المنهاج الاعتيادي، حتى داخل المدارس الخاصة، ما يتطلب إعداد مواد تعليمية مخصصة تتناسب مع قدراتهم واحتياجاتهم".

وشددت الحديدي على ضرورة أن تراعي وزارة التربية الفروق الفردية وتفاوت الأعمار والقدرات الاستيعابية داخل الصفوف الخاصة، مع توفير الدعم اللازم للكوادر التعليمية المشرفة على هذه الفئات، مؤكدة أن "المعلم هو عنصر أساسي في إنجاح أي تجربة تعليمية، ويجب تمكينه وتأهيله بشكل كافٍ".

وتعود بداية تجربة مركز دار العطاء إلى عام 2016، عندما أنشأت الحديدي المركز بـ12 طالباً فقط. "جاءت الفكرة من إيماني بأن هذه الشريحة تستحق نيل حقها في التعليم والحصول على شهادات علمية"، مشيرة إلى أن بعض هؤلاء الطلبة أصبحوا اليوم في المرحلة المتوسطة.

وتابعت: "بعد نجاح التجربة من خلال تحسين النطق والاستيعاب، توسعت مجموعة دار العطاء إلى أربع محافظات، وبلغ عدد الخريجين حتى الآن حوالي 400 طالب، بعضهم التحق بالتعليم الأساسي العام".

إلى جانب التعليم، تؤكد الحديدي على أهمية الجانب التوعوي، مطالبة الجهات التربوية والإعلامية بـ"تعريف الأطفال الآخرين بمتلازمة التوحد، وبقية الحالات الصحية التي يعاني منها أقرانهم، بهدف تعزيز القبول المجتمعي والتقليل من التنمر والعزلة".

مركز حكومي واحد في بغداد

ويقول المختص في الإرشاد النفسي والباحث الاجتماعي، غزوان فيصل، إن "الاهتمام بفئة المصابين بالتوحد لا يزال دون المستوى المطلوب، سواء على صعيد الرعاية النفسية أو التعليمية"، مشيرًا إلى أن "الكثير من العائلات تواجه هذا الاضطراب بمفردها، في ظل غياب مراكز متخصصة كافية أو دعم حكومي منظم".

ويضيف أن "الدولة لم تضع حتى الآن سياسات واضحة للتعامل مع اضطراب طيف التوحد، وترك الأمر للمبادرات الفردية وجهود منظمات المجتمع المدني، التي تعمل بإمكانيات محدودة"، مشددًا على أن "هذا التقصير الرسمي ينعكس سلبًا على جودة حياة الأطفال المصابين وأسرهم".

وأوضح فيصل أن "أغلب المدارس في العراق غير مهيأة لاستقبال أطفال التوحد، لا من حيث الكوادر ولا المناهج، ما يؤدي إلى عزلتهم الاجتماعية ويقلل من فرص اندماجهم الطبيعي في المجتمع".

وأشار الى ان "وزارة الصحة لا تمتلك إحصاءات دقيقة أو تقريبية عن أعداد المصابين بالتوحد في البلاد". ويعزي غياب الإحصاءات الدقيقة إلى "نقص قواعد البيانات وعدم تسجيل العديد من الحالات، سواء في المراكز الحكومية أو الأهلية"، طبقا لحديث فيصل.

ويؤكد ان "انتشار المراكز والمعاهد الأهلية المتخصصة في علاج اضطراب التوحد في مختلف محافظات البلاد، يشير إلى وجود أعداد كبيرة من المصابين، ويعكس بالمقابل تقصيرا حكوميا واضح في رعاية هذه الشريحة".

وبيّن انه "في بغداد، يوجد مركز حكومي وحيد لعلاج مرضى التوحد، وهو "مركز بغداد الحكومي للتوحد" في جانب الكرخ، في حين تشير إحصاءات غير رسمية إلى وجود نحو 85 مركزا أهليا مرخصا تقدم العلاج في أنحاء متفرقة من البلاد"، لافتا الى وجود "معاهد أخرى خارج إطار الرقابة الرسمية، وسط تكاليف علاج تتراوح بين 250 إلى 500 ألف دينار شهريا".

واختتم غزوان فيصل بالتأكيد على "ضرورة وضع استراتيجية وطنية شاملة للتعامل مع اضطراب التوحد، تبدأ بالتشخيص المبكر وزيادة الوعي المجتمعي، مرورًا بدمج الأطفال في النظام التعليمي بطريقة مدروسة، وتأهيل المعلمين، وصولًا إلى توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأسر".

عرض مقالات: