اخر الاخبار

تنشر “طريق الشعب” اليوم الحلقة الاخيرة في السلسلة المكرسة لشح المياه والتغييرات البيئية والمشاكل التي يواجهها العراق جراء ذلك

شهد العراق في الفترة الماضية تراجعا كبيرا في مناسيب نهري دجلة والفرات، حيث تقلصت الإيرادات المائية بأكثر من الثلث منذ الربع الأخير من القرن العشرين، ما دفع بمنظمات حقوقية ونقابات إلى التحذير من الآثار السلبية على القطاع الزراعي، واحتمال توقف بعض محطات مياه الشرب في المحافظات، لكن وزارة الموارد المائية أكدت أن لديها خزينا مائيا مناسبا لهذا الموسم. 

وقال  رئيس الجمهورية برهم صالح في مقال نشرته وكالات الانباء، ان “بناء السدود على نهري دجلة والفرات أدى إلى نقص متزايد في المياه، بات يهدد إنتاجنا الزراعي وتوفير مياه الشرب. وقد يواجه البلد عجزاً يصل إلى 10.8 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بحلول عام 2035”.

86 بالمئة من المياه تذهب للزراعة

ويؤكد المختصون بالشأن الزراعي ان القطاع الزراعي في العراق من أكثر القطاعات استهلاكا للموارد المائية المتوفرة؛ ففي عام 2011 مثلت الاستهلاكات الزراعية حوالي (76 %) من مياه نهر دجلة و(91 %) من مياه نهر الفرات بمعدل عام يبلغ (80 %) من الموارد المائية الكلية لنهري دجلة والفرات وروافدهما، ولذا يجب العمل على هذا القطاع ليكون أكثر اقتصادا في استخدام المياه والحد من الفواقد.

إحصاءات وزارة التخطيط اشارت الى أنَّ الزراعة استحوذت على نسبة (86)  في المائة من المياه المستخدمة خلال السنة المائيَّة (2013 – 2014)، وهذا ما يوضح أهمية الأنهار للتنمية الزراعيَّة في العراق، نتيجة لما يتسم به مناخه من موسم جفاف طويل نسبياً وقلة أمطاره قياساً بدول الجوار. 

وحسب تقارير محلية رسمية انخفض إسهام القطاع الزراعي في الناتج المحلي من 4.2 في المائةعام 2013 إلى 3.1 في المائةعام 2016، كما انخفض حجم الخزين المائي من 157 مليار متر مكعب إلى ما يقارب 50 مليار متر مكعب عام 2015.

وقد سجل الموسم الزراعي 25 مليار متر مكعب في عام 2017، لكنه انخفض عام 2018 بسبب شح المياه إلى 17 مليار متر مكعب. وبالتالي فان نقص مليار متر مكعب من حصة العراق المائية يعني بالمحصلة خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من الإنتاج الزراعي.

الجفاف يضرب 16 ناحية في ديالى 

وفي محافظة ديالى التي تحوي 7,500 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية، لا يمكن توفير مياه الري خلال الموسم الزراعي الصيفي المقبل سوى لما يغطي “أقل من 500 كليومتر مربع”، وفقا لمدير زراعة المحافظة صفاء الجنابي.

وذكر نائب رئيس المجلس المحلي لناحية مندلي سابقا، في محافظة ديالى، أن “الإيرادات المائية باتت معدومة في مندلي من مصادر عدة، إلى جانب خروج سد مندلي عن الخدمة بسبب الترسبات الطينية وغياب عمليات الكري والتطهير، ما جعل كميات المياه فيه لا تتجاوز نصف متر فقط”.

واضاف أن “كميات الماء الموجودة بسد مندلي والبالغة ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف متر مكعب والمخصصة لإرواء البساتين، لا تكفي لشهر واحد فقط لقلة طاقته الاستيعابية”.

وأعلن رعد التميمي، رئيس نقابة مزارعي ديالى، مطلع حزيران 2021، أن “الجفاف الشديد ضرب 16 ناحية في المحافظة”، مضيفاً ان “انخفاض منسوب المياه في الجداول وروافدها أدى إلى نفوق نصف أسماك المقاطعة”.

اما في قضاء خانقين، المحاذي لإيران، فقد انحسرت الزراعة بشكل كبير جدا لشح المياه وقلة تساقط الأمطار، منذ أربع سنوات.

وطال التصحّر “نسبة 69  في المائةمن أراضي العراق الزراعية”، وفق ما يقول مدير قسم التخطيط في دائرة الغابات ومكافحة التصحر المهندس الزراعي سرمد كامل.

وبحسب تقارير عراقية، فإن سد اليسو في تركيا تسبب بتشريد نحو 80 ألف شخص من 199 قرية، إضافة إلى التسبب بحظر زراعة الأرز، كونها تستهلك كميات كبيرة من المياه، ما دفع عدداً كبيراً من المزارعين الى هجر أراضيهم. 

وبذات الموضوع حذر تقرير صادر من جمعية “المياه الأوروبية” من أن نهر دجلة وحده سيفقد 33 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بسبب سياسة تقليل المياه التي تتبعها أنقرة.

البصرة الأكثر تضررا 

الكارثة البيئية المتجسدة بشح المياه، كانت بشكل أكبر في المحافظات الوسطى والجنوبية؛ إذ تعد الزراعة هي المصدر الرئيسي للدخل بالنسبة للمجتمعات الريفية. وبسبب انخفاض المناسيب أو الري بالمياه المالحة خسر المزارعون خلال العقد الماضي اراضيهم، ما اضطر بعضهم لهجرة الزراعة والاتجاه الى عمل اخر لتأمين مصدر عيشه.

وفقدت محافظة البصرة حوالي 87  في المائةمن الأراضي الزراعية كليا أو جزئيا، بسبب تسرب مياه البحر المالحة، الى الاراضي الزراعية.

والبصرة ليست هي المحافظة الوحيدة التي تأثرت بهذه الطريقة. وفقا لـ “برنامج الأمم المتحدة للبيئة”، يفقد العراق يفقد حاليا نحو 25 ألف هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة سنويا، معظمها في الجنوب. 

أحد مزارعي محافظة البصرة يقول ان “كل ما نزرعه يموت، أشجار النخيل، البرسيم، وهي عادةً نباتات تحتمل المياه المالحة، كلها تموت”.

ضربة قاضية

يقول المهندس الزراعي علاء البدران من محافظة البصرة: “هذا العام، وللمرة الأولى منذ نيسان وبدء الموسم الزراعي، ارتفعت نسبة المياه المالحة”.

وتعدّ ملوحة المياه، مرفقةً بالارتفاع الشديد في درجات الحرارة، ضربة قاضية للقطاع الزراعي العراقي الذي يشكّل نسبة 5 في المائةمن إجمالي الناتج الداخلي، ويوظّف 20 في المائةمن إجمالي اليد العاملة في البلاد.

وتشكل الملوحة على طول نهر الفرات نسبة أعلى مما هي على طول نهر دجلة وروافده بسبب الخصائص الجيولوجية، وإدارة الأراضي، وري الأراضي الزراعية، وممارسات تصريف المياه العادمة في مستجمعات نهر الفرات. فيما يعاني شط العرب من أعلى نسب ملوحة بسبب التقاء الأنهار وقنوات الصرف الصحي ذات الملوحة العالية به، وانخفاض كميات تدفق المياه، وتأثير المد والجزر من الخليج، مما يؤثر على مناطق المصب في البصرة. 

سنة شحيحة

وطبقا للمتحدث باسم الوزارة الموارد المائية، علي راضي، أن “كل معطيات السنة المائية الحالية شحيحة، حيث انخفضت الإيرادات في نهري دجلة والفرات، وكذلك في مصادر سدي دوكان ودربندخان، وفي سيروان وديالى”.

وأضاف أن “محافظة ديالى أكثر تأثرا بشح المياه، لأنها من المحافظات التي يكون مصدر تغذيتها بالمياه نحو 80  في المائةمن نهر ديالى، و20  في المائةمن نهر دجلة”. 

 مياه لنحو 12 مليون دونم

ويرهن الأكاديمي الدكتور أحمد عمر الراوي تطوير مستقبل الزراعة في العراق بـ”الاهتمام بالسياسة المائيَّة في البلد والتي تستهدف توفير المياه لنحو 12 مليون دونم من الأراضي التي تزرع رياً، وهي تشكل أكثر من نصف المساحة التي تزرع في العراق”.

ويشير الى “اهتمام السياسة الزراعيَّة في العراق بإنشاء العديد من مشاريع الري التي يبلغ مجموعها أكثر من (35) مشروعاً رئيساً، منها مشروع ري الجزيرة الشمالي، الذي يأخذ مياهه من بحيرة سد الموصل ويروي مساحة تقدر بنحو (1.3 مليون دونم). أما المشاريع الإروائيَّة المقامة على نهر الفرات فيقدر عددها بنحو (16) مشروعاً تتفرع عنها نحو (131) جدولاً فرعياً لإرواء مساحة تقدر بنحو (4.84 مليون دونم)، في حين أنَّ المشاريع الإروائية التي تعتمد على مياه دجلة والمقدر عددها بنحو (12) مشروعاً إروائياً، يتفرع منها (16) جدولاً إروائياً، تروي نحو (3.95 مليون دونم)”.

وتابع الراوي أن “المشاريع الإروائيَّة التي تعتمد على مياه ديالى التي يقدر عددها بـ(4) مشاريع، فتروي نحو (1.15 مليون دونم) من الأراضي المزروعة سنوياً، أما المشاريع التي تعتمد على مياه الزاب الكبير والمقامة في منطقة اسكي كلك فتقدر بنحو (4) مشاريع، تروي ما يقارب (1.3 مليون دونم)”.

وبحسب الأمم المتحدّة، فإنّ 3,5 في المائةمن الأراضي الزراعية في العراق فقط مزوّدة بأنظمة ري.

الجفاف يهدد الاهوار 

وتعدت تأثيرات شح المياه في العراق لتشمل الاضرار بالمسطحات المائية الاكبر في البلد ما يهدد وجودها في لائحة التراث العالمي لاكبر المحميات الطبيعية في البلد. حيث تتعرض اهوار محافظة ذي قار، الى موجة جفاف كبيرة بسبب تراجع تدفق مياه القنوات المغذية له من نهري دجلة والفرات.

يقول علي عبد الخبير مدير مركز شؤون الأهوار، وهو منظمة متخصصة برصد التغيرات البيئية في المنطقة إن “نقص الإمدادات المائية سيؤدي إلى كارثة فيما يتعلق بالتنوع الأحيائي من ناحية انقراض أحياء برية أو مائية، فضلا عن نقص الموئل وفقدان مكان استراحة الطيور المهاجرة”، مضيفا “يهدد هذا التغير وجود الأهوار على لائحة التراث العالمي التي تحدد أهمية الأهوار بهذين العاملين”.

وتبلغ مساحة الأهوار ما يقارب 38 ألف متر مكعب وهي تمتد في محافظات البصرة وميسان وذي قار، ولا توجد إحصائية دقيقة عن أعداد السكان الذين يعيشون في تلك المناطق والتي يعتمدون في حياتهم بشكل أساسي على المياه والقصب والحيوانات.

ويعتقد جمعة الدراجي، عضو الجمعية العراقية لإحياء وتطوير الأهوار، أن “الجفاف الحالي هو الأشد في تاريخ الأهوار”.

ويؤكد أن “الأمور وصلت الآن لدرجة عدم الحصول على مياه كافية للشرب، لا للسكان ولا حتى للحيوانات”، مضيفا “لم يتبق سوى منخفضات وبرك ماء متناثرة”.

في حين يتوقع متابعون في مجال البيئة، أن انحسار المياه عن مناطق الأهوار قد يفقد الغالبية العظمى منهم مصدر رزقهم، كما يهدد حياة آلاف الحيوانات سيما الجاموس الذي يعد جزءاً حيوياً من معيشة سكان الأهوار.

ويروي أحد مربي الجاموس بأنهم “كل شهرين أو ثلاثة أشهر، علينا النزوح لنجد المياه”، مضيفاً “إذا شربت الجواميس المياه المالحة، تتسمم، وتتوقف عن إنتاج الحليب ثمّ تنفق”.

وعلى الصعيد ذاته أبدى ناشطون مختصون بالبيئة قلقهم حيال ما تتعرض له الأحياء المائية في الاهوار من مخاطر جمة نتيجة جفاف مساحات واسعة منها ما يهدد حياة الكثير من تلك الأحياء ويعرضها لخطر الموت والانقراض. “شحة المياه الواصلة إلى مناطق الاهوار قد تؤدي بطريقة او بأخرى الى الضرر بالأحياء المائية والبرمائية على حد سواء والتي تعيش في تلك المساحات وموت الكثير منها وهجرة الباقية الى مناطق يتواجد فيها الماء”، حسب الناشط البيئي احمد صالح نعمة.

ولم يدم انتعاش سكان الأهوار من المياه، التي غمرت مناطقهم بعد سنوات من الجفاف التي شهدتها بين عامي 2015-2018، والتي خسرت فيها تلك المناطق أعدادا كبيرة من الجاموس والأسماك؛ لكن مصيرهم مع الجفاف لا ينتهي، فالتحذيرات هذه المرة تبدو مخيفة أكثر من أي وقت مضى.

“تصريحات غير حقيقية”

على الرغم المخاوف الشديدة، التي أطلقها الناشطون بمجال البيئة، حول خطر جفاف الأهوار، إلا أن مدير الموارد المائية في ذي قار، غزوان عبد الأمير، أكد أن الانخفاض قد حصل في الأيام الماضية بسبب أن الإطلاقات المائية كانت لمياه الشرب وبعض الاستخدامات الأخرى.

ويؤكد عبد الأمير على أنه رغم انخفاض التصاريف الواردة للمحافظة، لا تقل حصة الأهوار عن 70 في المائةمن الكميات الواردة، وتصاريف نهر الفرات هذه الأيام تجاوزت الحصة المقررة ضمن الخطة السنوية لتشغيله بمقدار 35%، حيث ستشهد الأيام المقبلة عودة المناسيب إلى ما كانت عليه قبل الانخفاض الأخير.

ومؤخرا، وصلت مناسيب مياه الأهوار إلى أقل من 130 سنتيمترا، وما تزال تشهد انخفاضا متسارعا بدرجة مخيفة. 

يقول رعد الأسدي، رئيس منظمة الجبايش للسياحة البيئية والناشط البيئي: “كل التصريحات المطمئنة لوزارة الموارد المائية هي غير حقيقية، وبعيدة عن أرض الواقع، فهي عاجزة عن إيجاد حل، والأيام المقبلة ستكون صعبة على سكان الأهوار”.

ويلوم الاسدي الحكومة كونها “لا تمتلك توجها حقيقيا بالاهتمام بمعالجة مشكلة المياه الواردة إلى الأهوار، بل العكس هناك أصوات داعمة لترشيد المياه الواردة إلى تلك المناطق بدعوى أن ذلك يعتبر هدرا في المياه بسبب التبخر للمسطحات المائية، غافلين عن تأثير المسطحات على التوازن البيئي وتلطيف الجو، فضلا عن كونها مصدرا اقتصاديا مهما جدا لعشرات الآلاف من السكان”.

ويضيف “لعل إهمال ذلك تجلى بشكل كبير في المؤتمر الدولي الأول للمياه في بغداد منتصف شهر آذار هذه السنة، ولم تذكر فيه مفردة الأهوار في توصياته، أما الحكومة المحلية فهي ليست بأفضل من المركزية” بحسب قوله.

إدارة وقوانين غير مجدية

ويقول رمضان حمزة، كبير خبراء الإستراتيجيات والسياسات المائية، وعضو هيئة التدريس بجامعة دهوك: “تتعرض النظم البيئية للمياه العذبة لخطر جسيم من تدفقات المياه المنخفضة من دول الجوار المائي للعراق، تركيا وإيران، وارتفاع درجات الحرارة، وتتفاقم مشاكل جودة المياه بسبب زيادة تركيز الأملاح والملوثات وانخفاض مستويات الأوكسجين، كما ويؤدي نقص المياه السطحية للزراعة إلى مزيد من ضخ المياه الجوفية، ويؤدي استمرار السحب على المكشوف إلى هبوط الأرض، وتجفيف الآبار المائية، والاخلال بتخزين ونسب المياه الجوفية”.

ويستطرد “حان الوقت لتتبنى الحكومة العراقية ترجمة خطط الأمن المائي لإجراءات ملموسة، ويجب أن تتوافق هذه الخطط مع الموارد المناسبة، وتوفير التمويل المستدام لمشاريع الري والمياه، وتأسيس الأطر التنظيمية الفعالة غير التقليدية، وزيادة الوعي المجتمعي بأهمية الأمن المائي من أجل التنمية المستدامة، لأن الهياكل الإدارية الحالية لكل من أنظمة مياه الشرب والري تتميز بضعف الإدارة وقوانين المياه غير المتسقة”.