اخر الاخبار

(1)

عبد الرحمن الأبنودي، شاعر العاميّة المصريّة، يحتل مكانه الشعري في مقدمة مشهد الشعر الشعبي المصري، ويُشكّل مع الشاعرين  أحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين ثلاثيّاً متميزاً. وكان للشعراء الثلاثة دور بارز في التفاعل مع تحولات الشعرية العربية منذ الأربعينيات ؛ وقد إنعكس هذا الدور في تطوير القصيدة الشعبية المصرية بعد أن كانت الأزجال هي الصيغة الشعرية المتوارثة.

أصدر الشاعر أعمالاً عدّة، من بينها : الأرض والعيال، الزحمه، عمّاليات، جوابات حراجي القط، الفصول، أحمد سماعين، أنا والناس، بعد التحية والسلام، وجوه على الشط.

إن َّ ما يُميز تجربة الأبنودي انحيازه الطبقي للناس المهمّشين في المجتمع المصري، وهذا الإنحياز تعكسه حتى عناوين مجاميعه الشعرية بعد أن كانت القصائد متوناً مشتعلة بهذا الإنحياز، مماجعل الإلتفات إليه، شعراً وقصائدَ غناء، أن يأخذ مساحة واسعة من الإهتمام، ليس على صعيد مصر فحسب، بل على مستوى ً عربي.

(2)

في مجموعة (وجوه على الشط) يتعمّق ادراك الشاعر لقضية الإنسان وتضحياته من أجل الحياة والحرية، وهكذا يُفصح عن هذا الإدرك بدءاً من الإهداء :  إلى أحمد أبو الدقون، فلّاح لايعرف العالم عنه شيئاً، إصطادته الدانه وهو على شجرة مشمش. وإلى عمّي ابراهيم أب زعزوع الذي مات في أرض الهجرة.

وكما هو الإهداء، فقد جاء  معظم عناوين القصائد يحمل الأسماء المحليّة  أيضاً :  ابراهيم أبو العيون، فتحيّة أب زعزوع، محمد عبد المولى، أُم علي، علي أب سلمى، سيد طه، الحاج أب سلمى، علي أبو العيون، عبد الرحمن عبد المولى.

إن َّ الشاعر هنا، يتفاعل مع محليته بإنصات، ولم يرد ْ أن يرى الوجوه في مراياها، بل أرادها في مرأى ً آخر، ألا وهو الشط، وكأنه في مشهد ٍ (نرسيسي)، حيث تصح حقيقة الوجوه من دون تجميل.

(3)

في الموقف الفني، تميل قصائد الشاعر إلى الطول والإسهاب في الوصف والشرح والتفاصيل، كما أنها تبدو نثرية ً  حكائيّة ً لا يشدّها أيُّ رابط ٍ إيقاعي / وزني على الأعم، والأمر يرتبط طبعاً بطبيعة عروض الشعر الشعبي المصري التي قد لا ترتكز على عروض الشعر العربي كما الحال مع الشعر الشعبي العراقي ؛ غير أن َّ معظم القصائد تأخذ  شكل البناء الحديث للشعر، متحررة من القافية الواحدة، والأشطر فيها متناوبة الطول  :

في الصيف.. في الليل

تهب النسمه من الشرق

يميل النخل.. يطقطق.. ورق المشمش في الأغصان

عمّي ابراهيم نايم  برّه البيت..على دكّه قدّام الباب

هادي البال اللي ابيكره ريحة الأحزان

كلبه ابينبح ع الحيط وقمر سهران

جاي متكوّر م البرد اللي ف سينا أم القلب المتعوّر أم البال السكران

صلّى..وكَل.. وارتاح

بكره يوم البصلات والتفاح

بس ع الله الضرب يكون هادي ومعقول...

النموذج الشعري هذا، يكاد يكون هو الشكل العام لقصائد مجموعة (وجوه على الشط)..، وهو شكل جديد على الشعرية الشعبية المصرية قبل تجارب الشاعر وجيله من المجددين، ولو أولى الشاعر اهتماما ً فنيّاً من حيث التركيز والإختزال وتجاوز اسلوب الحكاية  إلى حد ٍ مناسب، لأوجد َ نموجاً متقدماً يرتبط به وبشعريته.

وحين يقتصد الشاعر بإستطالات الأبيات الشعرية، ويحكم دلالة كل بيت، ويختزل الحكاية، فإن َّ القصيدة تجيئ متماسكة، خالية من الإستطراد الممل :

بيّاع الدندرمه

اللي العصريّه بيزمّر ويفوت

م اليوم مش حيفوت

ولا حينادي على المنجه ولا التوت

زي ما كل الناس بتموت

بيّاع الدندرمه يا جمالات

مات

عدّى الموسم

وشجرة النبق اتخضّت

والتكعيبه عرف سكّتها الموت...

في (وجوه على الشط) ثمّة قصائد تتشاغل بموضوعات تتعدى  المناخ المحلي إلى مناخ أبعد وأوسع، حيث الهم الإنساني التضامني، قصيدة (فيتنام) إنموذجاً، وفيها يُثير الأسئلة والتعجّب بوجه المحتل، وقد جاءت لفظة فيتنام بنطق ٍ صعيدي – فيتمان  :

فيتمان.. فيتمان.. فيتمان

يعني احنا ورق خبيزه.. وناس فيتمان خلفة شيطان..؟!

مش ناس زيّنا طالعه في الرمل وفي الريح..؟

مش نابتين زيّنا في طين الزرع..؟

الوجوه في هذه المجموعة لا تمحوها مياه الشط، فهي ظلال راكدة في ذات الشاعر تكشفها  دلالة قوله :

أحلى ما يعمل إنسان في حياته.. يا ولدي يزرع ظِل....

عرض مقالات: