اخر الاخبار

قرأتُ قصائد بالعامية للشاعر رحيم الغالبي بعنوان: (قصائد آذاريات لميلاد الحزب الشيوعي العراقي). بداية أقول: إن القصائد حملت مشاعر رحيم الغالبي “خارج” ذاته لكنها ليست منفصلة عن “داخل” كيان الحزب الشيوعي العراقي، في سياق القصائد الاذارية تلك، وجدتُ حنينا وبحثا متواصلا بين الشاعر والحزب، بنوع هادئ من حماسة بدت لي شعريا كحركة تهم بالنهوض حين يقول: ((مملوح بس وسفه الايدين كصيرة متلوح بس فكري طويل ايتابعك شتروح....!!.. انت الذوق.. انت الراي.. انت الروح..

في البيتين الأولين يجتمع الغم إلى الغم، غم الشاعر وغم الحزب، لكن الشاعر سرعان ما يرفض التشاؤم حين اقبل بهمة على القول بأن الحزب هو “الذوق” وهو “الرأي” وهو “الروح”. فهل أراد الشاعر أن يعبر عن علاقة الشعر بالايدولوجيا أم أراد التهليل شعبيا لعلاقته مع حزب جماهيري يتجه عمره نحو اكتمال القرن من عمره ، أم انه أراد أن يكشف لنا أن شعر العامية العراقية يمثل من خلال إنشاده لهذا الحزب رافدا مهما من الروافد الثقافية العراقية، المعبرة عن ضمير الشعب العراقي، الذي واصل كفاحه منذ زمان طويل ضد الحكومات الغاشمة، وضد ظلامية سلطة الحزب الواحد خلال 35 عاما ؟، لا شك أن جدلية التفاؤل في قصائد اذاريات تكبر تدريجيا بإحساس فطري متنام حين يؤكد الصفات الفردوسية مثل:

من الصبح

كون اكعد انه من الصبح

ماشوف سجينه وجرح

عمال اشوفن والفلح

طلاب دفترها..

محبة

ومزهرية

وغصن زيتون

وحمامات

وشرايط حمر تتباهه بيها اطفالنا بين المعلمات

و للمدرسة لمن يروحون

وعصرية ...

يضحكون ويفرحون

مثل نصب الحرية

من يرجعون

هذه مفردات ذات تعبير قادرة على تطهير مستقبل العراق ومستقبل أناسه ، الذين سيكونون أكثر سعادة وانسجاما مع عالم نصب الحرية في بغداد . في الحقيقة إن وجدان الشاعر رحيم الغالبي هو نفسه وجدان شعراء آخرين مثل مظفر النواب وعريان السيد خلف ورياض النعماني وسامي عبد المنعم وغيرهم من الشعراء، الذين جسدوا لنا اللهجة العامية من خلال الحزن ولوعة الحب ثم من خلال التواصل مع “الآخر” الذي هو الشعب أو الناس وفي قصائد اذاريات الغالبي هو الحزب الشيوعي العراقي حين استولد قصيدته من تجربة داخلية في أفقر محافظات العراق وهي مسكونة بجدلية الأمل والنضال والمستقبل حيث يموت الإنسان أو يستشهد غير أن الحزب الشيوعي العراقي يفوق الولادة والنمو لينتقل الى المستقبل مجسدا سرا كبيرا بان الحزب لا يموت إذ يقول:

هي الشمس وحده

واللي خلق هالارض ..

تبقى الشمس شمسه

ونته شمسنه..الحزب..تاريخ أمة وشعب

ماصرت خبزة ابحلك ،

واللي يمضغك حقد ....

صدّكني كل الصدك

هم ينكسر ضرسه

بس عدنه احنه السمع

وافواهم خرسه

هل نحن أمام صومعة رحيم الغالبي تتقافز منها ومن مياه مدينته “الشطرة” مختلف مفردات الكينونة والوجود والخلود كي يعرّف بها الحزب الشيوعي..؟ هل هذه مبالغات شعرية أم أنها شكل من أشكال التواصل مع الحزب الذي أحبه أم أنها وعي الزمن القادم ..؟ ربما لا يوجد جواب ضمن القصيدة على أسئلة من هذا النوع لكن الشيء الابلغ في قصائد اذاريات يكاد يلوح تعبيريا عن تجارب في الحب بين فرد ومجموعة، بين شاعر وحزب، بين الفرد ومكمله. لهذا السبب بالذات يعتقد الشاعر أن حزبه لن يكون في المستقبل على هامش الحياة بل سيكون ساحرا لنشاط الناس وملهما لأفكارهم وانه سيفلح في نهاية المطاف أن يكون الحزب والشعب أكثر سطوعا في بناء إنسان المستقبل وعلاقته حين يقول قولا شعريا مكثفا :

فاض النبع نهران...

نهران

فاض النبع

نهران...

روحك رمز للشعب

والصلى ..راد آذان

أذنت محد سمع

منها..... وبدى الخسران

يا روحي لمي الشمل

الشيء الفني الذي وجدتُ كينونته في قصائد رحيم الغالبي “الاذاريات” هي انه استخدم لهجة، هي لهجة الشعب، وانتقى مفرداتها ذات قرب لأدوات فهم النخب المتعلمة، بمعنى انه حاول ابتكار صيغة التوافق الشعري في القصيدة الواحدة بين النخب والناس الفلاحين، بين المتعلمين وغير المتعلمين، في محاولة منه لأن يشرح حبه للجميع ، معبرا عن هذا الحب بان يكون المحبوب وهو الحزب الشيوعي العراقي اختيارا شائعا لكل عاشق في بلاد الشمس الساطعة والنهرين الكريمين. بالصور المتجسدة في الاذاريات وبالمفردات المتكدسة في أبياتها، استطاع رحيم الغالبي أن يستغور العلاقة بين الذات والمجموع، بين الفرد والحزب، بين نقاط افتراق الحاضر ونقاط التقاء المستقبل.

عرض مقالات: