اخر الاخبار

وأنا اجوس خلل عباب هذا الفيض المنهمر من التقصي والبحث والتنقير والتدقيق، الذي أغدقه علينا الدكتور علي حداد في مجال التراث الشعبي، وكنت وأنا أقرأ فصول كتابه هذا أناجي نفسي ايجهد مضنٍ هذا الذي بذله واي إخلاص حباه الله به كلي يطلع علينا بكتابه الذي عنوّنه بـ (جمر أخضر.. قراءات في الأدب الشعبي العراقي) الصادرة طبعته الأولى سنة 2017 وأمتد إلى أكثر من أربع مئة صفحة، لذا كان من حقه أن يفرح وأن يغتبط، وهو يرى بحثه أو مشروعه في دراسة التراث الشعبي العراقي، يتجسد حقيقة واقعة، ويدعه يأخذ مكانه اللائق بين القراء والباحثين في هذا اللون من ألوان البحث، والذي أخذ منه الكثير من الوقت والجهد والمراجعة. بعد أن يقرأ الدكتور علي حداد، آراء الدارسين لما عرف بداية بـ (الفولكلور) إذ يطلق عليه بعض الدارسين اسم (التراث الشعبي) وينعته آخرون بـ (الموروث الشعبي) أو (الثقافة الشعبية) المصطلح الذي يميل إليه الباحث معللاً ذلك لا لأنه الأحدث بل لكونه الأدل والأكثر شمولية، من دون أن يغيب عن البال مصطلح (التراث الشعبي).

قصيدة المجرشة ما شانها؟

وإذا كان النص المكتوب والفصيح عانى تعدداً في الروايات، وهو ما نراه في الشعر غالباً، فإن النص الشعبي الشفاهي غير المدون كان -لاريب- عرضة إلى الكثير من الحذف والإضافة، لذا غالباً ما تطالعنا الروايات المتعدد لنص ما، فضلاً عن نسبته لأكثر من شخص، وها ناتج عن الذاكرة الإنسانية التي تنسى ومن ثم محاولة الترميم، ترميم النص بما ليس منه أصلا وقد ضرب هذا التأرجح في صحة الانتساب وقصيدة من أسيّر القصائد الشعبية لا بل ملحمة  شعبية، تداولها الناس وشدا بها قراء المقام العراقي الأستاذ محمد الكبنجي، وقارئ المقام يوسف عمر إذ هناك من يؤكد ان قصيدة (المجرشة) الشهيرة التي جاءت على لسان امرأة عراقية لم يقف عندها الدارسون ولم يتوصلوا إلى حقيقة اسمها، فنظم على نولها الشاعر الشعبي المعروف الملا عبود الكرخي وقد قرأت ذلك بداية عقد التسعين من القرن العشرين، وهو ما يشير إليه الباحث علي حداد (فحين لا يقطع بنسبة متنها النصي الأول إلى شاعر بعينه يكون ذلك مدعاة إلى القول بتوافره على واحدة من السمات الأساس الدالة على  شعبيته تلك هي (غياب اسم المؤلف ومجهوليته) ولعل ذلك مما أطلقها في محيط التداول الشفاهي الخصب، قبل أن يتصدى لها الملا عبود الكرخي، ويعيد إنتاجها  بمهارته ونفسه الشعري الطويل، ولعله كان كذلك أول من وضع لها عنوانها). ص244.

لقد ضاع النص الشفاهي والمختلف في نسبته وظل النص المكتوب الذي نشره الكرخي تباعا في جريدته (الكرخ) سنة 1927  قبل ان يضمه ديوانه الصادر سنة 1933  وأرى أن الارتياب في نسبة القصيدة قد ساور العديد من الدراسين والباحثين، لكن خشيتهم من لسان الملا عبود الكرخي الباشط ، منعهم من الحديث بهذا الشأن، والأمر يشمل ما قوبل به صدور ديوانه هذا، وإذ كتب عنه وجوه البحث والكتابة والشعر ايامذاك مثل محمد بهجة الأثري، وفهمي المدرس ومعروف الرصافي وروفائيل بطي، وغيرهم، وما أظن ان ديوان شعر شعبي حظي بهذا الاهتمام كما حظي به ديوان الكرخي، ولو كان لغيره لما أهتم به أحد، وبالحري لما اهتموا به مثل هذا الاهتمام. وإذ يقف الدكتور علي حداد، وهو يدرس التراث الشعبي العراقي في كتابه هذا على مدى نحو قرن من الزمان، مقسماً إياه إلى ثلاثة أقسام، يقف عند ما سماه مرحلة التأسيس والريادة، ليؤرخ فيه لكتابات الدارسين منذ العقد الأول من القرن العشرين، وحتى اقتراب أربعيناته من نهايتها، لعلاقة ذلك بوفاة الأب انستاس ماري الكرملي سنة 1947 وقد فتح صفحات مجلته الرائد (لغة العرب) لكتابات معروف الرصافي ورزوق عيسى ويوسف غنيمة ومصطفى جواد وطه باقر وغيرهم فإنه يتناول  في المرحلة الثانية الذي اطلق عليها اسم مرحلة الترسيخ واستقصى فيها الدراسات التي أنجزت خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين، سواء أكتبها باحثون أو أدباء من جيل المرحلة السابقة، أم من جاء بعدهم من كتاب جدد، فإنه يتناول بل يدرس جهود الأستاذ الباحث والمترجم الرصين كاظم سعد الدين وكذلك إنجازات الباحث الموسيقي حسين قدوري، في حقل معين هو الخاص بالطفل الذي أتحف المكتبة بكتابه الموسوعي (لعب وأغاني الأطفال الشعبية في الجمهورية العراقية) والذي صدر بثلاثة أجزاء.

موروث شفاهي

يرى الباحث الدكتور علي حداد، وهو المهتم بالتراث الشعبي، والذي أصدر أكثر من كتاب في هذا الباب ومنها كتابه (ديوان الطفل في الأدب الشعبي اليمني) الصادر في عدن سنة 2006  مشيراً إلى أن له عديد الكتب عن الحياة الثقافية اليمنية، وهي نتاج لعمله في جامعة صنعاء سنوات عدة والمؤسس لرابطة دراسات الثقافة الشعبية في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، يرى ضرورة تعهد هذا الموروث الشعبي الشفاهي بالعناية اللازمة من خلال استحداث أقسام في الجامعات العراقية لدراسة وتدوين هذه الثقافة الشعبية، التي ظلت الأكاديمية العراقية تدير لها ظهرها في حين اهتمت به عديد الدول العربية مثل: مصر والجزائر والسودان والسعودية ودولة الإمارات العربية وتحديداً إمارة الشارقة فأنشأت معهد التراث الشعبي. لذا فإن الباحث الدكتور علي حداد يطمح- ومن حقه ان يطمح جزاءً وفاقاً لما بذل من جهد مضن ورائع في الآن ذاته- أن يكون كتابه هذا (جمر أخضر. قراءات في الأدب الشعبي العراقي) الذي أهداه إلى الأستاذ: كاظم سعد الدين، وباسم عبد الحميد حمودي، البقية الطيبة من أولئك النبلاء الذين استوقفهم هذا التراث الخصيب، يكون مادة في منهجية درس أكاديمي قد يتحقق ظهوره في أفق الثقافة العراقية، ولو يعد أكثر من حين ولأجل ذلك فقد كان التمسك بالآليات البحثية دابا متواتراً، لعله  بدا ناصع الكشف عن نفسه في (آلية التهميش) المتبناة باستفاضة بينة وبدقة صارمة، حتى استحال(الهامش) بقصدية ندعيها متناً آخر وكان ذلك أمراً استوجبته الأمانة العلمية والمجادلة المعرفية التي  (تحايث) المتن  وتباصره بما لديها). تراجع ص 11.

فتح رصين

 إن كتاب (جمر أخضر. قراءات في الأدب الشعبي العراقي) لمؤلفه الباحث الدكتور علي حداد فتح رصين  في هذا اللون من الوان البحث استقصى فيه – وبدربة وتمكن- الثقافة الشعبية العراقية على مدى القرن العشرين، والعشر الأُوَل من القرن الحادي والعشرين واقفاً عند اساطينه فضلاً عن دراسة استقصائية عن شعر المرأة العراقية، اردفها بأخرى عن العلامة الشاخصة في الشعر الشعبي العراقي، إلا وهو الشاعر عريان السيد خلف، وقد أحسن الوصف إذا نعته بـ ( اللقية الجديدة المصنوعة من ذهب أصيل) ليكون الختام مسكاً بـ (سالفة من سوالف) أي حكاية من حكايا قريتنا وهي حكاية واقعية بلهجة ريف أهل الكوت، رواها لنا الدكتور علي حداد مؤرخة لأجداده وذويه.

عرض مقالات: