(1 )
عادة ما تنشأ اللهجة من داخل اللغة الأم وتتبرعم خارجها . واللغة كوجود يسبق وجود اللهجة على الأعم ، ولكليهما استخدام عام واستخدام فني خاص . ولا يخفى بأن َّ بعض اللهجات كانت لغة ً في عصر ٍ ما . وما يجعل للهّجة سيادة في الحديث الشفاهي ، والحوارات اليومية في : الشارع ، العمل ، المقهى ، المجالس ...الخ وكذلك في الأغنية والدراما ، هو انعدام النحو والصرف وحركات التشكيل . ونتيجة لهذه السيادة ، ولأنها طيّعة مشتبكة بأعصاب الناس ويومياتهم ، فقد دخلت في حوارات الرواية والمسرحية وفنون ٍ إبداعية أخرى .
وكثيراً ما يستهجن الأدباء وبخاصة ٍ الشعراء منهم استخدام اللهجة على نطاق واسع لأسباب لا تسعها هذه الإشارة ، إلا أن َّ الكثيرين منهم يستخدم اللهجة في حوارته الاجتماعية ومقابلاته الإذاعية والتلفزيونية. فالشاعر / أدونيس / في مثل هذه الحوارات يستخدم اللهجة السورية – اللبنانية ، و/نزار قباني / أيضاً يستخدم اللهجة السورية وفي شعره ملامح منها ؛ والشاعر / يوسف الخال / دعا إلى لغة لبنانية خاصة أقرب إلى اللهجة ، والشاعر / سعيد عقل / كتب شعراً باللهجة اللبنانية . أما الشعراء العراقيون عدا / عبد الأمير الورد / فإنهم يستخدمون اللهجة بشكل واضح . وكما تُشير المصادرإلى أن َّ / شكسبير / قد كتب أعماله بلغة انكَليزية غير المتداولة الآن ، وكذلك / دانتي / لم يكتب باللغة الأم ، أي أنَّ الإثنين كانت لغتهما لغة ً محكية ً . وهنا في هذه الإشارة لا أدعو إلى توجه ٍ يجعل من اللغة هامشا ً وأن تكون اللهجة متنا ً ، لأن َّ هكذا دعوة ستكون عليلة الصدق ومنافية لتاريخ اللغة . ولكن َّ الذي استوقفني ما جاء في كتاب ( أنا الموقّع أدناه محمود درويش ) .للإعلامية اللبنانية ( إيفانا مرشليان ) ..، وهو كتاب يتضمن حواراتها مع الشاعر / محمود درويش / ..، وكان درويش يتحدث لغة ً ولهجة ً . لغة ً في الكتابة ولهجة ً في المحادثة الشفاهية . وهكذا أردت من خلال حديثه أن أتلمس فاعلية كل ٍّ من اللغة واللهجة في وعينا اللغوي بصورة عامة ، ومدى مساحة الإرسال والتلقّي .
( 2 )
أودع الشاعر درويش أوراق حواره الخطّيه عند الإعلامية ( ايفانا مرشليان ) وقد أطلق عليها لقب ( الرهيبة ! ) ، وقامت بتسجيل الحوار الشفاهي على جهاز التسجيل . وأوصاها : أعلني عن الأوراق ، بعد خمس سنين على الأقل ، وانشريها لتكن هديتي ومفاجأتي على يدك ِ.. أنا الموقّع أدناه محمود درويش . لقد نركت ُ لديك ِ أوراقاً أحببتُها فعلاً وأنا أكتبها .. تعرفين أنني خصّصت ُ لها أكثر من أمسية ٍ لإنجازها ، فهل تقدّرين جهودي وتحتفظين بها لقرّائي في مكان آمن .
نعم لقد أوفت ْ مرشليان ، والتزمت بوصيّة درويش ، وأصدرت الحوار بشقّية اللغوي واللهجوي في كتاب عنوانه : ( أنا الموقّع أدناه محمود دروش .. بحضور إيفانا مرشليان ) . وقد تم َّ الحوار في باريس .
( 3 )
لا أنوي تثبيت بعضاً من إجابات درويش باللغة الفصحى ، فالشاعر كان مقتدراً ، لغة ً وفكراً وعمقاً شعرياً ورؤية ً ابداعية ، وهذا ليس بغريب على شاعر يقف في الصف الأول مع شعراء تحديث وتجديد الشعر العربي . ولكن سأُثبّت بعض ما كان يقول باللهجة الفلسطينية كإجابات - من دون ذكْر الأسئلة تجنّباً للإطالة - وكيف جعل من هذه اللهجة أداة ً توصيلية تحمل الكثير من الجمال والحسيّة :
ليش بتضحكي ؟
الفرح بإيش ؟! بنات باريس بعمرك ما بيلبسوا هيك أسود .
أبوكي بِحِب شعري ؟
يوميات الحزن العادي ، هادا كتبتو متل الحلم ، ذكّريني شو بقول فيه ؟
أنا قلت هيك ؟ والله حلو هالكلام .
يلّا انزلي يابنت وانتبهي عحالك .. الدني ليل ، بس توصلي طمنيني
إدخلي رهيبه .. إيش بدّك بالخزانات بتفتشي فيها ؟ الركوة هونيك
صحيح ، هوالشتي اللي بيمحي الحلم الجميل . كل واحد
بس بدّو يترك باريس يحس إنها لازم تخلص أو تنمحي من بعدو
هي بس كانت تضربني ؟ ولك أنا اللي كنت شقي . مرّات ضعت
ومرّات وقعت عن الحصان . كنت ولد زغير وجرحت جبيني ، بعدو
الندب لهلق .
إن شاء الله تحتفظي منيح بالأوراق وما تضّيعيها . خبئيها معك ِ وحافظي عليها .
( 4 )
محمود درويش ، ما بين اللغة واللهجة ، يمنح الحوار نكهة ً من صلابة اللغة / الأرض ، ومن اللهجة / العشب والندى . إنه الجدارية الصخرية .. إنه جدارية الماء ...