لم يكن علي الغزي يعلم أن مشاركته في عراضة مسلحة نظمتها قبيلته، ستكتب لحظات حياته الأخيرة، بعد ما قتلته بأعيرة نارية طائشة. ومن المفارقات أن تشييع الرجل شهد هو الآخر إطلاق نار كثيف - وفق ما يرويه جاره الحقوقي أحمد الوائلي.

وباتت العراضات العشائرية المسلحة شائعة جدا في العراق، لا سيما في المناطق الريفية. إذ تشهد المناسبات الاجتماعية وحفلات الأعراس ومراسيم التشييع مسيرات مسلحة يتخللها إطلاق نار في الهواء.

ويؤكد الوائلي في حديث صحفي، استمرار هذا الموروث بشكله المسلح، رغم رفض غالبية شيوخ العشائر اطلاق النار في المناسبات.

رسالة تخويف

يشرح المؤرخ صباح الحمداني معنى العراضة، مبينا أنها عبارة عن حركات انفعالية يقوم بها فرد أو جماعة، وتتضمن الدبك على الأرض بقوة، مع التلويح بأعلام القبيلة وإطلاق الأهازيج الحماسية.

ويوضح، أن العراضة تلازمت مع الأهزوجة. إذ يستعرض فيها المهوال مفاخر عشيرته وحروبها وكرمها، لافتا إلى أنه “بالرغم من أن هذه الظاهرة تعد موروثا شعبيا له ميزته الخاصة، إلا أنها تستخدم أحيانا سلبا، عندما يكون مضمونها إرسال رسالة تخويف للآخر. وقد تسبب الكثير من هذه العراضات في حوادث مميتة”.

ويعود تاريخ العراضات المسلحة إلى عقود طويلة. فقد ازدهر هذا الموروث بشكل كبير ابان ثورة العشرين، عندما كانت العشائر تحفز الثائرين ضد المستعمر الانكليزي، لكن هذا الأمر تصاعد كثيرا خلال السنوات الأخيرة بالرغم من ان عشائر كثيرة ترفض إطلاق النار العشوائي، وتصدر وثائق بمنع هذه الظاهرة -  حسب الباحث والمؤرخ المتخصص في شؤون العشائر العراقية، هاتف فيصل الحولاوي.

ضعف السلطة

من جانبه، يقول الناشط أحمد شاكر، من محافظة ذي قار، أن “العراضات العشائرية موجودة منذ عشرات السنين، لكنها تقل في بعض السنوات بسبب قوة القانون والسلطة، وتتصاعد عند ضعف السلطة”، موضحا في حديث صحفي، أن “المجتمع العراقي تغلب عليه القبلية. فالكثيرون من أبناء المجتمع لا يزالون يتمسكون بعادات إطلاق النار في المناسبات الحزينة والسعيدة، كتعبير عن المشاعر، الأمر الذي يشكل خطرا على حياة الأبرياء”.

ويروي شاكر كيف كاد يفقد حياته عندما سقط رصاص حي عشوائي أمام منزله، أطلقه أشخاص خلال عراضة لإحدى العشائر.

فيما يرى أستاذ علم الاجتماع د. حميد الهاشمي، أن “العراضات المسلحة إرث بعث من جديد، بسبب غياب القانون وضعف الدولة وهشاشة الوضع الأمني”.

ويضيف في حديث صحفي قائلا أن “العراضة المسلحة تعكس صورة سلبية من خلال ترويع الآمنين وبث القلق والرعب في نفوسهم. أما مظاهر حمل السلاح فتعكس بشكل عام مدى ضعف هيبة الدولة وخرق القانون، ما يضعف ثقة الناس بالدولة”.

ويدعو الهاشمي إلى فرض سلطة القانون وتكاتف الجميع لمنع إقامة هذه الفعاليات، مشددا على أهمية نشر التوعية في المجتمع بشأن أخطار العراضات المسلحة ونتائجها الوخيمة.

تهذيب العراضات

وكانت وزارة الداخلية قد حذرت من أخطار العراضات المسلحة، وتهديدها المباشر لحياة المواطنين – وفقا لما يذكره مدير شؤون العشائر في الوزارة اللواء ناصر النوري، في حديث صحفي سابق.

ويوضح النوري أن “هناك توجيهات من الوزارة بضرورة تهذيب العراضات العشائرية من خلال الاكتفاء بإطلاق الهوسات والأهازيج ورفع الأعلام والسيوف والتلويح بالأسلحة، من دون إطلاق الأعيرة النارية”، لافتا إلى أن “القانون العراقي يعاقب كل من يطلق الأعيرة النارية في المناسبات أو العراضات العشائرية، بالحبس مدة تصل إلى 3 سنوات”.

55 قتيلا سنويا

أدى انتشار السلاح بعد 2003 إلى تفاقم العراضات المسلحة واستخدام الأسلحة المتوسطة وحتى الثقيلة فيها أحيانا.

وحسب المحامي والخبير القضائي واثق كاظم العابدي، فإن عدد ضحايا رصاص العراضات يصل إلى 55 قتيلا سنويا في أرجاء العراق، إضافة إلى عشرات المصابين والمعاقين، مؤكدا في حديث صحفي، أن أعداد الضحايا في ازدياد واضح خلال السنوات الأخيرة.

ولا تتوقف أضرار العراضات المسلحة على الأشخاص، إنما تلحق أيضا أضرارا مادية كبيرة بسيارات المواطنين وخزانات المياه وواجهات المباني وشبكة الكهرباء وغيرها. وأحيانا تتسبب في حرق المحاصيل الزراعية بعد سقوط أعيرة نارية في الحقول والمزارع.

وتخسر القبيلة التي تنظم العراضة - وفق العابدي - مبالغ مالية كبيرة تصل إلى الملايين. وهي تكلفة العتاد المستخدم في العراضة الواحدة إذا كانت خلال عزاء شيخ عشيرة أو أمير قبيلة.

ويدعو المحامي إلى وضع تشريع خاص لمنع هذه الظاهرة، أو تعديل النصوص الموجودة، بما يضمن تشديد العقوبة على مطلقي النار في العراضات.

رفض مجتمعي وعشائري

تعرب شرائح واسعة من المجتمع العراقي عن رفضها للعراضات المدججة بالسلاح، خصوصا بعد تسببها في سقوط ضحايا كُثُر خلال السنوات الماضية.

ويقول الشيخ خلف ناصر الصجيري السراي، شيخ عموم عشيرة الصجيرات، إن عشيرته والكثير من العشائر الأخرى منعت استخدام السلاح وإطلاق الأعيرة النارية في المناسبات.

ويوضح في حديث صحفي، أن “هناك بعض المتهورين ممن لا يستجيبون لنداءات الشيوخ، فيطلقون النار خلال العراضات والمناسبات الأخرى”.

وقد وقعت أخطاء كثيرة في هذا السياق، كان آخرها الحادث المأساوي الذي حصل قبل نحو شهر، عندما أسفر إطلاق الأعيرة النارية عن سقوط أكثر من 8 ضحايا خلال تشييع أحد شيوخ العشائر.