يقضي علي (19 سنة) ساعات النهار جائلاً بين المركبات عند تقاطعات منطقة المنصور، ليبيعُ الأقراص المدمجة وعلب المناديل. وفي الليل يفترش رصيف مسجد قريب، أملا بغد أفضل يخفف عنه حياة اليتم والتشرد!

في حديث صحفي، يلخص علي سيرته بكلمات قليلة: “عثر عليّ شرطي وأنا في الرابعة من عمري مشرداً في الأسواق، فسلمني لدار الأيتام”.

ويضيف قائلا: “كان الشرطي يتردد للاطمئنان علي بين حين وآخر، ثم اختفى. لا أعرف حتى أسمه، والمشرفون في الدار كذلك لا يعرفون شيئاَ عنه”. ويتساءل: “هل كان هذا الشرطي والدي وتخلى عني بتلك الطريقة؟!”، متابعا قوله: “لم يعد ذلك مهماً بالنسبة لي، فقد كنتُ طفلاً مشرداً عندما سلمني للدار وأنا الآن مشرّدٌ أيضا”.

وبخلاف العديد من رفاقه الأيتام الذين أكملوا دراساتهم أو عثروا على أقرباء يضمونهم أو يوفروا لهم أعمالاً، خرج علي من دار الأيتام، بعد بلوغه الثامنة عشر – كما تنص اللوائح الرسمية - ولم يكن معه سوى ورقة تثبت شخصيته، فيما كان ينتظره واقع قاسٍ!

عصابات منظمة تتلقف الأيتام

علي ليس حالة استثنائية، بل ان هنالك كثيرين غيرهُ انتقلوا من دور الأيتام إلى الشوارع بعد بلوغهم السن القانونية. المحظوظون منهم يجدون أعمالاً ويندمجون في المجتمع، وبعضهم يواصل دراسته.

بينما هنالك من تتلقفهم عصابات منظمة تستخدمهم في تجارة الجنس والتسول، وحتى الإرهاب – وفق ما يذكرهُ معاون قائد شرطة بغداد اللواء عدنان حمود سلمان في تقرير نشرته “شبكة نيريج” للتحقيقات الاستقصائية.

ويرى اللواء أن سبب تشرد الأيتام هو عدم اهتمام الدولة بدور رعايتهم، لافتا إلى أن “قلة أعداد الدور الموجودة، يقابلها عدد كبير من الأيتام بفعل الحروب والإرهاب”.

ويلفت إلى أنه قدم مقترحات الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لحل مشكلة الخارجين من دور الأيتام، منها تعيينهم حراساً للدور ذاتها التي خرجوا منها، ومنح المجتهدين في الدراسة فرصة للبقاء في الدار لحين إكمال دراساتهم وتعيينهم معلمين أو موظفين في الدار نفسها، أو صرف سلف خاصة بهم لفتح مشاريع تدر عليهم المال، مع تشكيل لجان لمتابعتهم أو إعادة فتح المصانع المغلقة وتشغيلهم فيها كأيدٍ عاملة.

ويؤكد اللواء أن “كل هذه الاقتراحات أهملت وأصبحت مجرد حبر على ورق”! مشيرا إلى أن “عناصر الشرطة تلقي القبض على متسولين تشرف عليهم عصابات منظمة، توزعهم بسياراتها الخاصة وتؤمّن لهم السكن. كما تدربهم على الدفاع عن أنفسهم أمام القاضي، فيقولون أن تلك السيارات والمساكن مستأجرة من قبلهم.. كثير من هؤلاء خرجوا من دور الأيتام بعد بلوغهم”.

وينوّه إلى أن “بين هؤلاء الأيتام من يمتلكون مواهب، يمكن أن تكون كنزا للدولة فيما لو استثمرت بالنحو الصحيح”.

منظمات تستغل الأيتام

رغم وجود 345 منظمة تعنى باليتيم في العراق، إلا أن “غالبيتها تستغل الأيتام لجمع المال لمصالح شخصية. وهناك برلمانيون يتاجرون باسم اليتيم، همهم الوحيد هو جمع الأصوات الانتخابية، فيما الحكومة لا تملك رؤية لمعالجة هذه المشكلة الاجتماعية” – حسب ما تنقله “نيرج” عن قائد شرطة. ويستدرك القائد انه “على الرغم من ذلك، هناك منظمات كانت تجاربها نافعة، وينبغي على الحكومة تعميمها على جميع محافظات البلاد”.

يذكر أنه في كانون الثاني 2021، كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق عن وجود 5 ملايين يتيم في البلاد، 45 ألفا منهم بلا أوراق ثبوتية.

ولا يخفى على أحد، أن دور الرعاية المتوفرة لا يوازي عددها أعداد الأيتام المليونية. لذلك فهي لا تستوعب سوى قليل منهم، بينما العدد الأكبر مصيره الشارع!

مشكلة مزدوجة

مدير الشرطة المجتمعية العميد غالب طعمة، يرى أن مشكلة الأيتام مزدوجة “فمن جانب لا تسع دور الأيتام أعدادهم، ومن جانب آخر يتم تسريح اليتيم بعد عمر 18”. ويوضح في حديث صحفي، أن “الشرطة المجتمعية ترصد يوميا مئات الأيتام المشردين في شوارع بغداد، تعمل في التسول ومهن مشبوهة”، مبينا أن “أكبر مشكلة تواجهنا هي عدم امتلاك اليتيم المشرد مستمسكات ثبوتية”.

بشرى على الأرصفة!

بشرى، شابة في عقدها الثالث تبدو مضطربة نفسية – وفقا لـ “نيريج” - وتتواجد في زقاق بمدينة الكاظمية، ولا تعرف شيئا عن حياتها سوى انها كانت في دار أيتام، والآن تعيش على الأرصفة.

تقول بشرى أن أهلها تركوها وهي في المهد، فتولت دار الأيتام تربيتها، وخرجت منها بعد أن بلغت الـ 18، ليصبح الشارع بيتها الوحيد!

تتهم بشرى باعة جوالين ومستطرقين بضربها والاعتداء عليها. وتؤكد أنها حبلت وولدت ثلاث مرات “اثنان سلمتهما لدار أيتام، وواحد سرقته مني تلك الحقيرة”!

وتتابع قائلة: “اشتغلت وأنا حامل في بيت امرأة معاقة مقابل الأكل والسكن، وبعد ولادتي لم أر الطفل أبدا، قالت المرأة بأنها باعته.. أعطتني بعض النقود وطردتني من بيتها”!

قصة نجاح نادرة

لتجنيب الأطفال الأيتام مصيرا مشابها للذي تواجهه بشرى، أسس الناشط والباحث النفسي هشام الذهبي عام 2004، “منظمة البيت العراقي” للإبداع، التي تؤوي الأطفال المشردين. وقام أولاً برعاية 4 أطفال في منزله، بعد ذلك جمع 47 طفلاً، آواهم وتكفل بمعيشتهم. وبمرور الأيام ازدادت أعداد الأيتام، وحرص الذهبي على تدريبهم وتهيئتهم للحياة العملية في مجال الخياطة والحلاقة والحاسوب إلى جانب مساعدتهم على ممارسة هوايات كالموسيقى والرياضة وحتى الصحافة والإعلام.

وتخرج عام 2017 في هذه المنظمة، 150 يتيما، ليواصلوا حياتهم العملية. وقد نجح بعضهم في إيجاد زوجات – حسب ما يذكره الذهبي في حديث صحفي.

نجاح هذا المشروع الخيري وصلت أصداؤه إلى دولة الإمارات، التي منحت الذهبي عام 2017 “جائزة صنّاع الأمل”. وفي منتصف عام 2022 أكمل هذا الباحث بناء دار جديدة للأيتام باسم “دار الإبداع العراقي”.

يقول عن ذلك: “رغم صغر حجم الدار، إلا أنها تضم قاعات للتدريس وأخرى للاجتماعات، إضافة إلى قاعات لتعليم الحاسوب والخياطة والرسم والعزف”. ويؤكد أن داره لا تتخلى عن أي فرد دخلها إلا بعد أن يتم الاطمئنان على مستقبله. وقد شمل ذلك 480 يتيماً تم احتضانهم على مدى 11عاماً. وهذا ما لا يحدث في دور الأيتام العائدة للدولة، إذ يجد الأيتام البالغون أنفسهم وحيدين دون دعم او مساندة!

الدولة عاجزة

إلى ذلك، يقول الباحث الاجتماعي وعد كريم هاشم، أن “الدولة عاجزة عن توفير الرعاية اللازمة للأيتام، فيصبحون فريسة سهلة للعصابات الإجرامية”.

ويشير في حديث صحفي إلى أن “المبادرات الشعبية إلى تقديم المساعدات للأيتام، من الأمور الجيدة، لكنها وقتية وتقتصر على الثياب والطعام، بينما المستقبل يبقى مجهولا”.