اخر الاخبار

بعد مرور قرابة عامين على حل مكاتب المفتشين العموميين، يتساءل معنيون عن النتائج التي حققتها هذه الخطوة في محاربة الفساد، عادين قرار الحل “غير مدروس”، وانه شجع على تغوّل تلك الآفة، بينما المؤديون لإلغائها يجدونها “حلقات زائدة”، عرقلت أعمال مشاريع الوزارات، وتحولت الى “وسيلة لابتزاز الاخر”.

وتقول مصادر مطلعة من داخل هيئة النزاهة، ان مكاتب المفتشين كانت تسند عملها بشكل كبير، لكن الهيئة الان باتت مثقلة بالعمل الرقابي.

هل تحقق الغرض؟

شُكلت مكاتب المفتشين العموميين بموجب أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 57 لسنة 2004 الذي نص في القسم (5) منه على مهام تلك المكاتب ومنها “فحص ومراجعة جميع سجلات الوزارة وكل ما تقوم به. والمراجعة والتدقيق في عمليات الوزارة وتلقي الشكاوى المتعلقة بأعمال الغش والتبذير وإساءة استخدام السلطة”.

ويقول عضو في احد مكاتب المفتشين السابقة: إن “العمل لم يكن مثاليا، لكنه شهد انجازات ملموسة في متابعة ملفات الفساد، رغم حجم الضغوط السياسية التي كانت تفرض من قبل المتنفذين علينا”.

فيما يبرر المدافعون عن قرار إلغائها، بأن “البرلمان كشف خروقا كثيرة اقترفها بعض المفتشين وموظفيهم، كالفساد والرشاوى وهدر المال العام، وما آلت إليه المكاتب بسببهم، من أوضاع استدعت إلغاءها لتسريع انجاز المشاريع والمعاملات، بعيدا عن الابتزاز والعرقلة للشركات والموظفين والمواطنين على حدٍ سواء”.

وحتى مع تلك الخطوة، يؤكد الجميع أن تلك الظواهر السلبية لا تزال مستمرة في دوائر الدولة، على قدم وساق، رغم مرور ما يقارب عامين على إلغاء المكاتب.

وحلّ العراق، مؤخرا، في المرتبة 162 من أصل 180 بلد، في مؤشرات الفساد التي أعدتها منظمة الشفافية الدولية، وهو السادس عربيا بالفساد وفقا لتقرير المنظمة.

غياب الاستراتيجية الوطنية

من جانبه، يعتقد سعيد ياسين، الخبير الممارس في مجال مكافحة الفساد، إن “الدولة لا تمتلك سياسة وطنية ولا إستراتيجية واضحة ومعتمدة لمكافحة الفساد، بعد إلغاء مكاتب المفتشين العموميين، من قبل مجلس النواب”.

ويقول ياسين، في حديث نقلته وكالات الانباء، إن “الفساد والرشوة في المؤسسات الحكومية تطورت وتنامت”، مضيفا ان “الأجهزة والمؤسسات الحكومية المعنية بالتحقيق ومتابعة عمليات الفساد، تتعمد عدم الكشف عن المعلومات والتحقيقات التي تجريها مع كبار الفاسدين”.

ويؤشر المتحدث، أن “غالبية الأحكام القضائية الصادرة ضد الفاسدين هي غيابية، أي أن المتهمين غير موجودين”.

ويشير الى أن قيمة المبالغ المنهوبة والمهربة على مدار السنوات التي تلت العام 2006، وحتى هذه اللحظة، تقدر بـ360 مليار دولار.

عمل استباقي رادع

أما جواد الطائي احد المتابعين لعمل مكاتب المفتشين السابقة، فانه يبرهن على جدوى عمل تلك المكاتب بالتقارير التي كانت تقدم إلى هيئة النزاهة سنويا، “إنها توضح كيف تم استرداد مبالغ مالية مهمة، نتيجة لتقصي ملفات الفساد، فيما تم وضع اليد على مبالغ أخرى كبيرة، بسبب الجهد الاستباقي الذي تقوم به المفتشيات قبل وقوع الجريمة”.

ويستعرض الطائي خلال حديثه لـ”طريق الشعب”، أحد نماذج العمل الاستباقي لهذه المكاتب قائلا “في وزارة الزراعة مثلا، تم ابطال عقود شراء مرشات، بسعر 400 دولار للمرشة الواحدة. بينما وجد أن سعرها الحقيقي في السوق، لا يتجاوز 60 دولارا. وهذا كان بفضل مكتب المفتش العام، ومثل هذه الحالة العشرات أو المئات في بقية الوزارات”.

ويقر جواد بأن “بعض المكاتب خضعت تماما للضغوط السياسية، بينما عملت مكاتب أخرى إعادة أموال طائلة إلى خزينة الدولة”.

ويعلل المتحدث قرار حل مكاتب المفتشية بـ”كشف ملفات الفساد الكبيرة التي تورطت بها جهات سياسية، ما جعلها تسرّع من عملية إلغائها من دون أي تخطيط أو دراسة” حسب قوله.

هدر خبرات المكاتب

ويلفت الطائي إلى إن “أعضاء مكاتب المفتشين، وبعد قرار الإلغاء، تم توزيعهم بطريقة عشوائية على دوائر الوزارات التي ينتمون إليها، ما جعل كثيرا منهم يتعرضون إلى المضايقات من قبل المسؤولين التنفيذيين الذين تضرروا من عمل مكاتب المفتشية”.

ويشير الى ان تلك “الطريقة العشوائية” جاءت بتدبير من بعض المسؤولين والنواب، ما تسبب بهدر مالي وبشري كبيرين، لأن الدولة كانت قد صرفت مبالغ كبيرة على كوادر تلك المكاتب، لأجل تدريبهم على هذه المهام، وبالتالي عطلت جميع خبراتهم، ولم تتم إحالتهم حتى إلى الجهات الرقابية، التي يمكن أن تستفيد منهم في هذا المجال.

النزاهة عارضت القرار

وبعد قرار إلغاء مكاتب المفتشين العموميين، أعلنت هيئة النزاهة، في حينها، عن الأسباب التي دعتها إلى الوقوف بالضد من هذه الخطوة، مؤكدة أن إلغاء المكاتب لا ينسجم مع جهود مكافحة الفساد.

وأوضحت الهيئة، إن “سبب الوقوف ضد مقترح قانون إلغاء مكاتب المفتشين العموميين يعود إلى أن الرقابة الـتي يقوم بها الـمفتش العام تعد من الإجراءات الوقائية لمكافحة الفساد بمعـنى أنه يمارس رقابته قبل وقوع الفعل، الأمر الذي يجعل مهمته تختلف عن مهمة بعض الأجهزة الرقابية الأخرى، ولاسيما الادعاء العام الذي لا يمكن أن يتقمص دور المفتش العام ولا أن يحل محله”.

وأضاف بيان الهيئة، أن “التسليم بفكرة إيكال هذه المهمة إلى الادعاء العام بكل تفاصيلها سيفضي إلى التدخل بأعمال السلطة التنفيذية من قبل السلطة القضائية، الأمر الذي حظره الدستور النافذ في المادة (47) الـتي كفلت مبدأ الفصل بين السلطات”، مشددا على إن “إلغاء المكاتب لا ينسجم مع جهود مكافحة الفساد ولا مع توجهات الحكومة والبرلمان الداعية إلى أن تكون الحرب القادمة هي الحرب على الفساد، إذ تستدعي المرحلة القادمة مزيداً منْ الدعم للأجهزة الرقابية وتوسيع صلاحياتها، وليس العكس. ولهذا فإن إلغاء المكاتب يمثل رسالة سلبية لكل من المواطن والأجهزة الرقابية، إذ سيشكك المواطن بنوايا مكافحة الفساد، وستشعر الأجهزة الرقابية بالإحباط، علما أن القرار سيفضي إلى التأثير السلبي في سمعة العراق الدولية، وفي تصنيفه بحسب معايير مكافحة الفساد المعتمدة منْ قبل منظمة الشفافية الدولية”.

كوادر قليلة وعمل مرهق

ومن جانب اخر، قال مصدر مطلع إلى أن مكاتب المفتشين العموميين كانت متباينة الأداء؛ فمن ناحية شهدت إخفاقا أو مساومات أو تغطية على بعض ملفات الفساد، ومن ناحية أخرى حققت خطوات مهمة في هذا المجال، وأعادت أموالا طائلة. وكان من المفترض إن يعاد ترميم وضعها والاستفادة من منجزاتها، لا الإطاحة بها بهذه الطريقة.

واضاف المصدر في حديث خص به “طريق الشعب”، انه بعد “قرار الإلغاء لم يتم توفير البديل الحقيقي، بل انه جرى اتخاذه بعيدا عن مشاورة هيئة النزاهة وكوادرها”. وعن تداعيات القرار، ذكر المتحدث، بان “هيئة النزاهة تقوم حاليا بجهود مضاعفة”، وأيضا ادى ذلك الى بروز “مشاكل أثرت في فاعلية متابعة ملفات الفساد”، لافتا الى ان “مكاتب المفتشين كانت تتابع الفساد داخل الوزارات، وتنسق بشكل مباشر مع الهيئة، لتزويدها بالمعلومات الكافية، علما أن هذه المكاتب كانت تملك المعلومات الفنية الكافية لمساعدة كوادر الهيئة في فهم ملابسات بعض ملفات الفساد المعقدة”. وأوضح المصدر ان “كفاءات الهيئة تتمتع بالمعرفة القانونية، لكنها لا تفهم تماما ما يدور مثلا في عقود وزارة النفط وتفاصيلها الفنية المعقدة، وكذلك وزارة الكهرباء وغيرها، فكل هذه التفاصيل كانت توضح من قبل المكاتب في الوزارات وتسهل العمل لرصدها وملاحقتها”. وخلص المصدر الى القول إن “الحكومة والبرلمان لم يكونا جادين في محاربة الفساد، لأنه كان بإمكانهما العمل على ترميم تلك المكاتب وتقويتها وتخليصها من ضغوط المتنفذين، لا حلها وجعل الفساد يضرب أطنابه”.

عرض مقالات: