اخر الاخبار

يواجه التعليم الطبي في الجامعات الأهلية انتقادات واسعة، بشأن طرق تعاطيه مع المواد العلمية وافتقاره لأمور أكاديمية مهمة برغم كلفته الباهظة. فما بين التعليم الحكومي وآلية القبول فيه، وما بين القبول الموازي وافتتاح الكليات الطبية الأهلية الذي لا ينقطع، تطرح المئات من الاستفسارات بشأن الجدوى مما يجري في هذا الحقل. ومقابل ذلك، يعتقد كثيرون أن أجور دراسة التخصصات الطبية وصلت إلى أرقام خيالية، في كليات هابطة المستوى: لا تلبي الحاجة الفعلية، ولا تنطبق عليها المعايير اللازمة

وبين فترة وأخرى، يُعلن عن موافقة جديدة بشأن استحداث كليات طبية أهلية، حيث أصبح وبحسب تأكيدات كثيرة، بعض التجار والمقاولين والأغنياء يملكون العديد منها وتحولت إلى مشاريع استثمارية لا علاقة لها بدراسة الطب. فيما تغيب المعايير المطلوبة عن أبنية الكثير منها، الامر الذي يدعو معه المعنيون والمراقبون لهذا الملف الى أن تكون هناك وقفة جادة، وتحديد ان كان العراق بحاجة إلى هذه الكليات فعلا، وبهذه الطريقة التي تجري؟

هل الهدف كمي أم نوعي؟

أحد أبرز الأسئلة التي تطرح منذ سنوات وحتى الآن: “هل العراق بحاجة إلى هذا العدد من الكليات الطبية الأهلية والدفع بآلاف الطلبة إليها وإلى الدراسات الموازية، أم أن الحاجة تكمن في إيجاد أبنية رصينة وبكوادر متقدمة حتى وأن لم يكن بعدد كبير؟”.

التجربة العراقية أوضحت بصورة جلية أن عددا كبيرا من خريجي التخصصات الطبية باتوا يتظاهرون ويفترشون أرصفة الشوارع بحثا عن فرص عمل فيما يتعرضون إلى القمع أحيانا، وإلى التهميش والإهمال في أحايين كثيرة، ليعاد طرح السؤال مجددا بشأن الجدوى من مراكمة أعداد هؤلاء الخريجين إن لم يسعفهم سوق العمل من جحيم البطالة وهم في الأصل يجدون أنفسهم غير مرحب بهم في المستشفيات والمراكز الطبية لقلة فرص العمل رغم أن المجموعة الطبية في البلاد تقع في مقدمة التخصصات من حيث الأهمية وضمان المستقبل.

ملاحظات كثيرة يطرحها معنيون بالتعليم الطبي، ويؤكدون أن العديد من الكليات الأهلية لا توفر المتطلبات اللازمة والمختبرات العلمية والكوادر التعليمية والأبنية ذات العلاقة والمستشفيات لتكون المسألة بمثابة دائرة تعليمية متكاملة حالها حال أي كلية طبية في مختلف بلدان العالم.

وقبل فترة وجيزة، قدم عميد إحدى كليات الطلب الأهلية استقالته بسبب قبول الطلبة بما يعدل أربعة أضعاف الرقم المقرر.

وقال العميد في كتاب وجهه لرئيس الجامعة وطالعته “طريق الشعب”: “أن قبولي بتكليف عمادة كلية الطب كان لقناعتي بأن الكلية قد تستطيع المحافظة على رصانة الدراسة وستكون كلية طب أهلية متميزة ومساهمة في دعم التعليم الطبي في العراق. إن الاستمرار بزيادة قبول الطلبة فوق الطاقة الاستيعابية للكلية للسنة الثانية والذي وصل إلى أكثر من 400 طالب (مع احتمال الزيادة) رغم أن الكلية تم اعتمادها لقبول 100 طالب فقط بموجب السعة السربرية المتوفرة لها، سيؤثر سلبا على رصانة الدراسة ويفقد الكلية اعتماديتها العلمية وسيكون له تأثير سيئ على سمعة التعليم الطبي في العراق بصورة عامة. لهذا لا استطيع الاستمرار في تولي عمادة الكلية راجيا قبول استقالتي”. 

فيما قالت الجامعة على موقعها الرسمي “نعلم الطلبة المتقدمين لشغل المقاعد في كلية الطب أن الطاقة الاستيعابية والمعدلات المقبولة والقنوات التي أتيحت وتتاح للتسجيل هي من اختصاص وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وان دور الجامعة يقتصر على عملية إتمام وتدقيق إجراءات التسجيل فقط. لذلك فان أي قرار بهذا الشأن يقع ضمن صلاحيات الوزارة”.

من جانبه، قال الدكتور أحمد الوشاح، ان دراسة الطب بكليات هابطة المستوى أو غير مستوفية الشروط في العراق هو هدر لطاقات الشباب الرائعة. 

ودعا الوشاح وزارة التعليم إلى “تقليص كليات الطب (الأهلية خصوصا) وان تتبنى النموذج التعليمي الأمريكي في هذا الجانب؛ فدراسة الطب في أمريكا هي احدى الدراسات العليا ولا يقبل الطالب في كليات الطب بعد تخرجه من الإعدادية، بل عليه أن ينهي ما يسمى أربع سنوات كلية، عادة يتخصص فيها بعلم الأحياء أو ما قبل الطب (Pre Med) وبعد التخرج يأخذ امتحان عام (MCAT) ثم يتقدم ليتنافس على احد كليات الطب ( أو طب الأسنان، الصيدلة، البيطرة) التي تقيّم درجاته مع الامتحان العام ومن ثم تقوم بمقابلة معه وجها لوجه، يدرس فيها الطالب أربع سنوات وبعد هذا يعمل على تكميل الاقامة (Residency)”. 

وأضاف “أن هذا النموذج سيساعد على فرز الأفضل في دراسة الطب ويحد من تضخم كليات الطب الهابطة ويؤسس لجيل رصين من الأطباء”.

وأردف “هناك طرق عدة مهنية وعلمية كثيرة لوضع الكليات الطبية لو ملكت الوزارة إستراتيجية رصينة”.

وتعليقا على الزيادة في القبولات، يؤكد طالب في كلية الطب (جامعة وارث الأنبياء الأهلية): “لدينا زخم كبير في عدد الطلبة”. 

ويقول انه وزملاءه دائما ما يراقبون واقع الجامعات في الخارج “نعتقد أن ما يجري هنا يجانب الدقة العلمية والرصانة”. 

ويضيف الطالب الذي رفض الكشف عن أسمه لـ”طريق الشعب”: أن “الجامعات الحكومية نفسها باتت تقبل أعدادا أكثر من القدرات الاستيعابية الخاصة بها مثل الجامعة المستنصرية، وهذا يؤثر على المستوى العلمي ويجعل الجيل الجديد من الأطباء أمام نواقص عديدة وانعكاسات خطيرة لأن الحقل الطبي لا يخضع إلى النقاش بل يحتاج إلى الصواب في التخطيط”.

أبنية بلا مستلزمات 

من جانبه، يتحدث التدريسي في وزارة التعليم، علي اللامي، عن افتقار الجامعات الأهلية الطبية للكثير من المتطلبات كالمختبرات والأساتذة والأبنية والمستشفيات التعليمية والتدريبية التي يجب أن تتوفر. 

ويقول اللامي في حديث مع “طريق الشعب”، أن “كليات الطب الأهلية يجب أن تكون مؤسسات رصينة لها مجالس إداراتها ومصادر تمويلها الواضحة وبرامجها المتطورة وتخضع في الوقت نفسه إلى شروط ومتطلبات الهيئات الطبية العالمية، وإلا ستكون شهادة خريجيها غير معتمدة. إن من أهم الشروط هو وجود مستشفى تعليمي لكل كلية من أجل تدريب الطلبة، فهل وفرت الكليات الأهلية في العراق هذا الشيء أم ستصبح عالية على المستشفيات التعليمية الحكومية؟”.

ويضرب اللامي مثلا بأن “أحد عمداء كليات الطب في دولة مجاورة أكد لنا في حديثه أثناء زيارته إلى العراق أن السياق المعمول فيه لديهم يفيد بأن يتم تأسيس الكلية وتوفير كافة الأبنية اللائقة والمختبرات والقاعات والكثير من الأمور”، مضيفا كذلك يتم اختيار عميد الكلية ورؤساء الأقسام والأساتذة قبل أن تبدأ الكلية بفتح باب القبولات.

ويجد اللامي، “أن كليات الطب الأهلية بمختلف التخصصات الطبية باتت مشاريع ربحية، لأن وزارة التعليم تئن تحت وطأة المحاصصة، ولا توجد ضوابط صارمة لهذا الأمر، ونرى كيف أن أبنية صغيرة وغير لائقة يتم افتتاحها كجامعات أو كليات أهلية وفي مواقع يشكل هذا مخالفة كبيرة”.

ويرى أن “عدد الكليات الطبية يفوق الحاجة، ولعل الأجدر هو الالتفات إلى واقع حال مؤسساتنا الطبية التعليمية وتحسين أحوالها وسد الثغرات فيها ورفع مستوى خريجيها، بدلا من ان نضيف الى مشاكلنا في هذا الحقل الهام مشكلة جديدة”.

قبولات عجيبة وغير منطقية

واحدة من المفارقات العجيبة بالنسبة للقبولات في كليات المجموعة الطبية هي اعتماد المعدلات؛ فما لوحظ خلال أكثر من سنة وعلى سبيل المثال أن معدل قبول كلية التمريض في بعض الكليات الأهلية هو 57 درجة. بينما في الكليات الحكومية يصل إلى 97 درجة، بما يعني أن الفرق بين القبولين هو 40 درجة لصالح التعليم الأهلي، وهذا الأمر لا منطق له سوى الدفع بالطلبة نحو التعليم الأهلي وتأكيد كل الشكوك التي تحوم حول هذه العملية. وباتت وزارة التعليم مطالبة بردم هوة المعدلات والإجحاف بحق آلاف الطلبة بسبب دفعهم إلى التعليم الأهلي أو الموازي نتيجة لعدم حصولهم على عشر الدرجة التي تؤهلهم للقبول في احدى كليات الطب.

إن إيجاد نظام قبولات عادل بات أمرا ملحا لإنقاذ القطاع التعليمي من الهلاك، وخصوصا في الكليات الطبية؛ فالجامعات الحكومية لا تقبل طالبا ـ على سبيل المثال ـ حصل على معدل 98 في المائة، ليكون طالبا في كلية الطب، لأن هناك منافسة شديدة، لكنها تقبله عندما يأتي للكلية ذاتها عبر التعليم الموازي ودفعه الملايين من الدنانير، بحسب ما يقول الطالب في كلية الطب (موازي) عمر سعد.

ويضيف سعد لـ”طريق الشعب”، أنه “من غير المنطقي ان يتم رفض المتفوقين بسبب أعشار الدرجة بينما يقبلون بالمال. هناك من لا يقبلون في التعليم الموازي اصلا نتيجة لدرجة واحدة أو أكثر، ولكنهم يقبلون في الكليات الأهلية التي عليها الكثير من المآخذ، وهذا يبين بأن صياغة هذه القوانين او السياقات باتت تعمل في خدمة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال الذين أسسوا كليات أهلية طبية، ولا هم أطباء ولا علاقة لهم بالقطاع التعليمي في الغالب”. 

ويشير سعد الى أن “هبوط المعدلات في الكليات الأهلية الطبية يسحب سنويا آلاف الطلبة ويبعدهم عن استحقاقهم الاكاديمي في الجامعات الحكومية. لقد وصلت عدد الكليات الأهلية إلى أكثر من 70 كلية وهي خطوة مقصودة ليتحول التعليم الجامعي مستقبلا إلى تعليم أهلي، ويقابل ذلك إهمال للتعليم الحكومي وتهميش واضح ينال منه، ولو كانت هناك حكومات وطنية لوسعت خطط قبولاتها من خلال البناء واستقدام كوادر تدريسية، لكن لا يحصل ذلك لأن السلطة في العراق متداخلة للأسف الشديد”. 

وحتى قبل أيام مضت، وجه عدد من أساتذة كلية الطب وأطباء في داخل البلد وخارجه نداءً بشأن التعليم الطبي وسوء حاله، مؤكدين في بيان لهم أن “محاولات تجري تحت ضغط شخصيات وأحزاب لاختيار عميد لكية الطب في جامعة بغداد وهو متخرج من كلية الطب بجامعة بابل عام ٢٠٠٧، وتاريخ أول تعيين له كمقيم دوري عام ٢٠٠٨ ليكون عميدا لطب بغداد العريقة (خدمته بالدولة حوالي ١٣ سنة فقط). فيما لا تتجاوز خدمة الشخص هذا 3 سنوات وهو راسب حوالي ٤ سنوات بكلية طب بابل ومرقن القيد ولقد اكمل الدراسة بكلية الطب بعشر سنوات وانتقل من الصحة إلى التعليم - كلية الطب البيطري - جامعة القاسم الخضراء”، مشددين على أن “الكلية تحوي العديد من الكفاءات لكن لم يتم الاعلان عن الترشح لهذا المنصب مثلما تم هكذا صفقات في بقية الكليات”. 

وطالب بيان الاساتذة وزارة التعليم بـ”التريث في هذه الترشيحات والغاء ترشيح هذا الشخص لانه مخالف للقانون”، بحسب قولهم. 

ويؤكد أصحاب الاختصاص، ان العراق يعاني من نقص “فاحش” في التخصصات الطبية المختلفة، ويجب على الدولة أن تدعم استمرار مسيرة تعليم الأطباء لرفع كفاءتهم بشكل مستمر وسد العجز في التخصصات النادرة.

عرض مقالات: