اخر الاخبار

شهدت ساحات النضال المختلفة خلال انتفاضة تشرين، العديد من النشاطات الثقافية في كافة المجالات، كالرسم، والشعر والخطابة والمسرح والغناء، وغيرها من الفعاليات التي أعطت للانتفاضة وجهها الجميل، وأبرزتها برونق خاص، بعيداً عن الطائفية والعنصرية، بل خلقت أجواءً وطنية وتلاحما مصيريا بين مكونات شعبنا، وقد تجسد ذلك بعدة صور.

كانت ساحة التحرير في بغداد عبارة عن ساحة مهرجان كبير، تؤمه العوائل من كل أطياف العراق، وأصبحت مزارا للجميع، وكان أمل الأطفال والنساء والشابات والشباب هو الوجود هناك وحضور تلك الفعاليات في هذا المهرجان النضالي العظيم لأبناء شعبنا، الذين جسدوا صورا من التحدي والنضال الشجاع النادر.

لم يكن الطريق سهلاً، لكن شباب الانتفاضة كانوا مستعدين للتضحية من أجل التغيير، فقد عبروا عن بطولة وشجاعة نادرين، وقدموا أرواحهم فداءً لأهداف الانتفاضة، ورغم ما مرت بها الانتفاضة من ظروف أدت إلى انحسارها، لكن جذوتها وعنفوانها وأسباب انطلاقها لا زالت قائمة.

لقد كان للمسرح نصيبه ليرسم صورة راقية لتلاحم أبناء شعبنا ونضاله المجيد، ففي ساحة التحرير حيث كانت انتفاضة تشرين مستمرة، عبر شباب الانتفاضة عن وعي عال، فكانت هناك مكتبة للقراءة والجلسات والخطابات والندوات السياسية بالإضافة إلى النشاطات الثقافية بأنواعها، التي غدت من عناصر وروح المنتفضين الحالمين بوطن المواطنة، بلد بدون فساد، وطن يزخر بالجمال والفن. فكان المسرح أحد الوسائل لطرح الأفكار وإيصالها للناس وتثقيف الجمهور، وكانت هنالك باستمرار أعمال فنية مسرحية أو مشاهد قصيرة معبرة، ساهم في تقديمها فنانون محترفون وهواة وشباب يقفون ليمثلوا لأول مرة في حياتهم، وبرزت طاقات فنية جديدة نالت الاعجاب.

في ساحة التحرير ببغداد كانت هنالك خيمة للفنانين تجرى فيها البروفات والتحضيرات لأعمال مسرحية توضح أهداف انتفاضة تشرين السلمية.

فتم تقديم العديد من الأعمال التي كان لها دور في تنوير الشباب ورفع معنوياتهم. منها مسرحية (مطبَّرة) التي جسدت يوميات المواطن العراقي المنتفض، حاكت المآسي التي مر بها الشعب العراقي، ساهم في العمل الفنان إسماعيل العباسي من محافظة ديالى الذي قال حينها “لجأنا إلى مسرح التحرير لأنه أصبح الوسيلة الأمثل للتعبير”.

وأيضا قدم المخرج علي عصام مشاهد يومية من الانتفاضة، وقال عصام وهو من البصرة، إن “الثورة تتجسد أيضا في المسرح والسينما والقراءة والرسم”، وكان عمله مثار أعجاب الجمهور الذي تجمع ليشاهد عرضا يمثل حادثة إطلاق نار وقنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، وجسد حالات الرعب التي عاشها المنتفضون.

وهناك من الأعمال ما قدم تحت جدارية جواد سليم من قبل بعض الشباب النشطاء، حيث قدموا عملاً فنياً نال أعجاب الجمهور.

الأعمال المسرحية التي قدمت في بغداد كثيرة ومن الصعب حصرها، بالإضافة إلى الأعمال التي قدمت في أماكن الاحتجاجات في المحافظات المنتفضة الأخرى، منها عرض مسرحي بعنوان (إلى أين؟) برعاية مركز بابليات لتمكين المرأة، نظمه شباب متطوعون في ساحات الاعتصام في بابل يوم 16 كانون الأول حول حرية التعبير وضد الطائفية وتأكيد سلمية التظاهرات. كما قدم شباب معتصمون مسرحية في ساحة اعتصام البصرة على مسرح شارع حسن حنتوش. وشهدت ساحة الحبوبي في الناصرية تقديم العديد من العروض المسرحية منها عمل يوم 13 ديسمبر 2019 يجسد “مجزرة الناصرية” التي ارتكبتها القوات الأمنية ضد المتظاهرين، قرب جسر الزيتون وراح ضحيتها العديد من الشهداء ومئات الجرحى.

جميع أعمال الفنانين التي قدمت كانت تهدف لنشر الوعي من أجل عراق خالٍ من التمييز والطائفية، وتكون فيه الهوية الوطنية هي الأساس، ونشر مفاهيم الجمال والحب والسلام.

ومن الفعاليات الثقافية المهمة هي الجلسة الحوارية التي نظمتها مجلة “الثقافة الجديدة”، تحت نصب الحرية، حول “المثقف وانتفاضة تشرين” والتي احتضنتها “الخيمة العراقية حيث شاركت فيها مجموعة من المثقفين والأكاديميين والناشطين من الشابات والشباب، وتركزت النقاشات التي دارت خلال الجلسة، على محورين أساسيين، الأول يتمثل في توصيف المثقفين الشباب لما يحصل في العراق من حراك احتجاجي منذ يوم الأول تشرين الأول، وما يتعلق بطبيعة الحدث وقواه الدافعة وآلياته المحركة من وجهة نظرهم، فيما يدور المحور الثاني حول أبرز الشعارات المطلوب رفعها في هذه المرحلة، والأهداف التي تسعى الجماهير إلى تحقيقها.

وكشفت النقاشات عن آراء مختلفة. فقد أشار أحد الشباب إلى أن الجيل الشاب الذي خرج في التظاهرات، طالب في البداية بالتعيين وتوفير الخدمات، لكن تلك المطالب سرعان ما تحولت إلى مطالب ثورية جذرية.

وتابع قائلا إن الاحتجاجات أشاعت روح العمل الجماعي وكشفت عن الدور الفاعل والمميز للمرأة، لافتا إلى أن اندلاع الاحتجاجات لم يأت صدفة، إنما جاء نتيجة السياسات الخاطئة وسوء إدارة الدولة منذ ٢٠٠٣، ونهج المحاصصة الذي ولّد الفساد، الأمر الذي سبب الاحتقان الجماهيري.

وتحدثت إحدى الشابات الحاضرات عن أحداث الانتفاضة وعن مساهمة المرأة فيها، مبينة أن “ما حصل قد نسميه انتفاضة أو ثورة، لكنه بشكل عام رفض لسياسة النظام القائم منذ 2003 حتى الآن”.

وتابعت قائلة إن “انتفاضتنا تحمل معارضتها للسياسات الخاطئة التي اتبعت لسنوات طويلة، وأنها (الانتفاضة) بدأت بمطالب شعبية محددة، لكنها تطورت إلى مطالب أوسع”.

وانتهت الشابة إلى القول إن “مفهوم الثورات ربما يحمل مضمون العنف، لكن الحركة الاحتجاجية العراقية سلمية، ومساهمة المرأة فيها لها أبعاد حضارية”، مؤكدة “اننا نريد أن يعبر المواطن عن رأيه بحرية، ولا نريد نظاما دكتاتوريا جديدا”.

وقدمت شابة أخرى من بين الحاضرين رؤاها حول انتفاضة تشرين، موضحة أن “المحتجين يقفون اليوم بوجه الحكومة بعد أن أهملت شريحة الشباب التي تشكل نسبة كبيرة من المجتمع، وانه بسبب ذلك الإهمال ونظرا لغياب العدالة الاجتماعية، فقد فقدنا احساس الانتماء للوطن”.

وتابعت قائلة، ان “الانتفاضة جعلتنا نشعر بمواطنتنا”.

شاب آخر من الحاضرين اتفق مع حديث الشابة التي سبقته، مشيرا إلى انه “منذ بداية الانتفاضة شعرت بوطنيتي التي فقدتها. فقد وجدنا العراق هنا في ساحة التحرير.. نحن موحدون اليوم، والكل يجمعه الحس الوطني العام الذي انتعش بهذه الهبة الجماهيرية”.

واضاف قائلاً انه “لا بد من اسقاط هذه الحكومة وتشكيل حكومة جديدة باختيار مستقلين وطنيين كفوءين.. انها ثورة أمل أعادتنا إلى الطريق الصحيح بعد أن وصلنا إلى مرحلة فقدنا فيها الأمل”.

ورأى أحد الشباب الحاضرين أن انتفاضة تشرين عكست ثورة معلومات، وثورة ثقافة، وإنها نمت وكبرت على مدى السنوات الماضية، مشيرا إلى أن المطالب البسيطة بدأت تتحول إلى مطلب “أريد وطنا”.

وقال شاب آخر أن الانتفاضة اندلعت في البداية نتيجة الفقر والبطالة وغياب الخدمات، لكنها “وبعد أن استهزأت الحكومة بالجماهير واعتدت عليهم”، التهبت مشاعر الناس، فنزل الشباب حاملين شعاري “نازل آخذ حقي” و”اريد وطنا”.

إحدى السيدات الحاضرات تحدثت عن التظاهرات بوصفها انبثقت من وعي الشباب، وجاءت نتيجة تراكمات على مدى السنوات الماضية، مبينة أن التظاهرات بدأت منذ عام 2011، وانطلقت أيضا في العام 2015 وكان للمثقف دور فيها، لكنها تأجلت وقتها بسبب الحرب ضد الإرهاب.

وتابعت قائلة أن “التراكمات بقيت تزداد لدى الشباب بفعل استمرار التهميش، واليوم كسر حاجز الخوف، وخرج الشباب للمطالبة بالتغيير الجذري”.

وألقت السيدة الضوء على بعض المكاسب التي حققتها الانتفاضة حتى اليوم، ومن أبرزها استعادة الهوية الوطنية.

واضافت متحدثة عن دور المرأة في انتفاضة تشرين، وعن صوتها الثوري الذي غيب خلال السنوات الماضية، وحضرت اليوم لتكون إلى جانب صوت الرجل، مؤكدة سلمية الاحتجاجات، وعدم تسجيلها أي حالة اعتداء او مخالفات.

هذه صور بسيطة عن ذلك المهرجان، حيث كانت ساحة التحرير تمتليء كل يوم بالجماهير الذين يتوزعون على نشاطات الخيم المختلفة، ناهيك عمن يقوم بالطبخ واعداد الطعام وعجن وإعداد الخبز، ومثلهم لاعداد الشاي. وكان للشابات والنساء دور مميز، فهن المسعفات والممرضات والطبيبات، ومنهن من تقوم بالطبخ والتنظيف وحتى غسل الملابس بالغسالات التي تم وضعها قرب الساحة وربطت بالكهرباء من المحلات المجاورة، وبينهن من قدمن القصائد والخطابات ضد سلطة الفساد غير هيابات، وسقط منهن شهيدات وجريحات.

لهن ولكل الشهداء المجد والخلود، ولكل أبناء الانتفاضة الشجعان الحياة الكريمة وتحقيق الأماني والأهداف السامية للانتفاضة.

عرض مقالات: