اخر الاخبار

تمتد علاقتي بالرفيق حسين العامل الى عقود طويلة. ففي السبعينات كان عنصراً بارزاً في اتحاد الطلبة في الناصرية، وفي الثمانينات مارس العمل السري رغم صعوبته وخطورته، وكان قريباً من الشهيدة سحر وزوجها الشهيد صباح طارش. وبعد سقوط النظام مارس العمل الصحفي وعمل مراسلاً لصحيفة (المدى) في الناصرية، وتميز بنشاطه الواضح والمتنوع في هذا الميدان. وقد ارتأيت أن التقي به لأجري معه هذه المقابلة الهامة حول انتفاضة تشرين، في واحدة من أبرز المدن العراقية الثائرة، وهي الناصرية. 

 

- كيف كانت بداية الانتفاضة في الناصرية؟ ومتى بالضبط؟

* انطلقت التظاهرات في محافظة ذي قار عصر يوم الثلاثاء( الاول من تشرين الاول ٢٠١٩) من ساحة الحبوبي، وتوجهت صوب مبنى محافظة ذي قار، وكانت تضم في بدايتها أكثر من ألف متظاهر، يطالبون بالخدمات وتوفير فرص العمل، ويهتفون بإسقاط الحكومة. وشهدت التظاهرة حرق إطارات وأعمال عنف، تصدت لها قوات الشرطة بإطلاق النار، وجرت المواجهات بين المتظاهرين والقوات الأمنية قرب مبنى محافظة ذي قار، وشارع النيل وشوارع فرعية أخرى، وهناك أنباء عن مشاركة حراس  مقر منظمة (بدر) بالرمي على المتظاهرين، بعد ترديد شعار (باسم الدين باكونه الحرامية) ومشاركتهم أيضاً في اعتقال عدد من المتظاهرين.

معظم المتظاهرين كانوا من شريحة الشباب، والكثير منهم دون سن الـ ١٨ عاما، وكان إجمالي ضحايا الناصرية في اليوم الأول، بحسب مدير عام دائرة صحة ذي قار (الدكتور عبد الحسين الجابري) شهيد واحد من المتظاهرين و٦٤ جريحاً من المتظاهرين وقوات الشرطة، واعتقال ٣٠ متظاهراً، والكثير من المتظاهرين الجرحى لم يذهبوا للمستشفيات خشية اعتقالهم. 

في البداية لم يكن المتوقع ان تكون المساهمة في التظاهرات بهذا الحجم. وكان هناك تشكيك بالجهات غير المعروفة التي دعت لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان من أبرز دوافع التظاهرات الفساد والعامل الاقتصادي المتردي وتفشي البطالة والتسويف لمطالب المتظاهرين، وتشريع قوانين تعزز امتيازات الطبقة السياسية وأتباعها كمحتجزي رفحاء، ومما زاد من نقمة الشباب حملات هدم منازل الفقراء من المتجاوزين على أراضي الدولة، من دون توفير بديل لهم.

ويمكن اعتبار انتفاضة تشرين امتدادا للتظاهرات التي انطلقت مطلع عام ٢٠١١ والاعوام اللاحقة، مع اختلاف في الشعارات التي كانت مطلبية في الاعوام السابقة، في حين مطالب تشرين شملت تغييرا شاملا للنظام، عبر ترديد (شلع قلع كلهم حرامية) و(الشعب يريد إسقاط النظام).

 

- من هم أبرز قادة الانتفاضة؟ وما هي أبرز شعاراتهم؟

* ليس هناك قائد محدد للانتفاضة، فمنذ الأيام الأولى رفع المتظاهرون شعار(الوعي قائد) لتجنب تحديد قيادة معينة خشية اعتقالها أو مساومتها، لكن كان هناك عدد من الشباب الفاعلين في الايام الأولى من الانتفاضة، أذكر منهم حسن ماهر الملقب (حسن باسكت بول) والناشط المغيب سجاد العراقي ونصير باقر وماجد حسين لفتة وحسين سليم وليث العامل، والناشطين المخضرمين خالد الناصري وعدنان عزيز دفار وخالد هاشم وعبد الله ناصر، والناشطات كل من إيمان الأمين ونهاوند تركي وسميرة خضير(أم وسيم) وأم أنور وغيرهم ، فضلاً عن الوجبة الاولى من الناشطين الذين اعتقلتهم مكافحة الإرهاب في الناصرية يوم الأحد ٢٧ تشرين الأول ٢٠١٩، والذين هم كل من الصحفي حسين العامل وابنه علي والمدونين هشام السومري وعلي منجل ووسام الذهبي وعدي الجابري وأبو جعفر العسكري وكرار الصريفي والمخرج عمار حمادي وأحمد ساجت الغزي ووصفي طاهر الإبراهيمي والشاعر سجاد الغريب، فيما برز فيما بعد عدد من القيادات بينهم (الدكتور علاء الركابي).

ومن أبرز ما ردده المتظاهرون من هتافات (نريد وطن) و(نازل أخذ حقي) و(الشعب يريد إسقاط النظام) و(شلع قلع كلهم حرامية) و (بعد ما نريد تحكمنه الحرامية) و(وطني ليس للبيع) و(نموت عشرة نموت مية انا قافل عالقضية) و(عادل عدس شيل إيدك هذا الشعب ميريدك) و(صار لازم ترحلون … فاسدون فاسدون). 

 

- كيف تعاملت السلطة في المحافظة مع المنتفضين؟ ومتى سقط أول شهيد ومن هو؟ وعلى يد من؟

* لم تشهد أية حركة احتجاجية في العراق ما شهدته انتفاضة تشرين من قمع واغتيال، ومن عدة جهات حكومية وحزبية وميليشياوية، وقد كانت حصيلة الخسائر تتصاعد كل يوم، ففي اليوم الأول سقط الشهيد(مصطفى عبد الأمير نعيم الشبيبي) و٦٤ جريحا من المتظاهرين وقوات الشرطة، واعتقال أكثر من ٣٠ متظاهرا، فيما شهدت أحداث جسر الزيتون مجزرة حدثت يومي ٢٨ و٢٩ تشرين الثاني ٢٠١٩ ، استشهاد  فيها٥٠ متظاهراً و٥٠٠ جريح، على يد قوة بقيادة الفريق جميل الشمري، ويبدو أن الأحزاب المتضررة من التظاهرات وأذرعها العسكرية لم تكتف بقمع المسيرات الاحتجاجية وقتل المشاركين فيها، فأخذت تلجأ إلى شن هجمات متكررة على ميادين المتظاهرين، حتى بلغ عدد شهداء الناصرية ١٣٤ شهيداً وأكثر من خمسة الاف جريح خلال عامين، جراء استخدام العنف المفرط والرصاص الحي، فيما كشفت السلطة القضائية في مطلع ايار ٢٠٢١ عن ١٢٠٠ دعوى قضائية مقامة ضد المتظاهرين في ذي قار، بينما أشار ناشطون إلى أكثر من ٧٠٠ دعوى قضائية مقابلة أقامتها أسر شهداء التظاهرات وضحايا القمع. 

 

- هل انفرد مركز المحافظة (مدينة الناصرية) بالمنتفضين، أم ساهمت المدن الأخرى كالشطرة وسوق الشيوخ ومراكز الأقضية الأخرى بمشاركة المنتفضين؟

* الانتفاضة كانت شاملة، إذ اندلعت في البداية في ساحة الحبوبي وسط الناصرية، ومن ثم توسعت لتشمل جميع الأقضية والنواحي كالشطرة والرفاعي والنصر والغراف وسوق الشيوخ والجبايش والفهود والإصلاح، وأصبح في كل قضاء ميدان للتظاهرات. وخيام للمعتصمين، وكانت هذه الساحات ترفد ساحة الحبوبي بحشود من مئات المتظاهرين. 

 

- قدمت الناصرية أكبر عدد من الشهداء (١٣٤) شهيداً، كيف كان رد فعل أهالي الضحايا والاهالي عموماً؟

* من غباء السلطة اعتقادها أن قتل المتظاهرين سيحد من الحركة الاحتجاجية، وما لاحظناه أن استشهاد أي من المتظاهرين كان يرفد ساحات التظاهر بمئات من أهالي وأقارب وأصدقاء الشهيد، وقد شكلت أسر الشهداء رابطة خاصة بهم، وكانت لهم خيمة اعتصام خاصة بجوار تمثال الحبوبي، وكان لهم رأيهم في جميع القرارات التي تتخذها ساحة التظاهر، فيما أقامت ساحة التظاهر بتخصيص جانب من ساحة الحبوبي لتخليد صور الشهداء وإيقاد الشموع والبخور وتلاوة آيات من القران وجلسات تأبين شارك فيها شعراء ورواديد. وفي ٩ ايار ٢٠٢٠، عقب اغتيال الناشط أزهر الشمري ردد المتظاهرون (إقمعوا بينه.. إقمعوا بينه.. شما قمعتوا بينه نزيد.. هاي ثورة وبعد ثورة وإحنه واحدنه حديد!).

 

- كانت مساهمة المرأة والنساء عموماً واضحة وملموسة، هل يمكن إيراد أمثلة لتلك المساهمة وأين تجلت؟

* كانت مساهمة المرأة واسعة بالعديد من الأنشطة، وسط قبول كبير من المجتمع الذي كان في السابق يؤطر كل فعل نسوي جريء ضمن خانة العيب والتحريم. فالمرأة كانت متظاهرة وناشطة مدنية وممرضة وطبيبة تعمل في ساحة التظاهرات، وكذلك هي شاعرة تتصدر بهتافاتها حشود المتظاهرين ورسامة تزين جدران المدينة، وصاحبة موكب تقدم خدماتها من ماء وطعام للمتظاهرين، ناهيك عن تقديمها الأفرشة والبطانيات والادوات المنزلية، لاسيما عند تعرض خيام المعتصمين للحرق والتفجير، كما اقتسمن قوتهن اليومي من خلال طبخ الطعام وتقديمه للمتظاهرين. كما قدمت كوكبة من الشهيدات أبرزهن أنوار جاسم مهوس، وتعرضت الناشطة نهاوند تركي لمحاولة اغتيال فاشلة، فيما تعرضت الناشطة إيمان الأمين وبناتها إلى التهديد بالقتل، وكانت أمهات الشهداء يهزجن أمام جثامين أبنائهن. .

 

- تميزت الانتفاضة بزخم هائل من الهوسات والردات الثورية الجادة والمحفزة، هل اقتصر إبداعها على شخصيات معينة ومحددة أم كانت عامة؟ وما هو موضوعها الرئيسي؟

- الهتافات والاهازيج في عموم العراق تجاوزت الخمسة آلاف أهزوجة وشعار، وقد قمت بجمعها في كتاب خاص سيصدر قريباً عن دار المدى، وحصة الناصرية من هذه الأهازيج لا يقل عن ألف أهزوجة وهتاف، جميعها تجسد مطالب الانتفاضة وتعبر عن طموحات الشعب، ومعظم هذه الهتافات كانت تخرج بصورة عفوية. ويمكن اعتبار أهازيج الشطرة الأكثر تميزاً والأشد وقعاً، وبالتأكيد كان وراءها شعراء محترفون، لكن لم يعلن عن أسمائهم لأسباب أمنية، ومن أبرز أهازيج ذي قار (هذا وعد.. هذا وعد… ذي قار ما تسكت بعد) و (هاي هاي الناصرية … نموت عشرة نموت مية) و(إحنه الأسسنة الملعب …وإحنه النلعب بيه) و(اليوم الكذلة تسولف. . خلي عكالك للدكات) في إشارة لمشاركة الشباب الواسعة وعزوف شيوخ العشائر. وردد متظاهرو الشطرة في إشارة لرفض الصراع بين إيران وأمريكا على الأرض العراقية (بكاعنه دوم الدول متحاسبة.. ودوم رايح بيها إبن الخايبة) و(القادة تجار الحروب ورابحة.. ودوم ولد الملحة بيهم طايحة) فيما رددت الناشطة في تظاهرات الناصرية نهاوند تركي يوم ٩ كانون الثاني ٢٠٢٠ وهي تتصدر تظاهرات الطلبة في ساحة الحبوبي (إنهض إنهض يا شعبنه يا شعب دجلة وفرات.. إنهض إنهض صيح بس كافي فساد… إنهض إنهض يا شعبنه وين أموال البلاد … إنهض إنهض يا شعبنه يا شعب دجلة وفرات … إنهض إنهض يا شعبنه ما تجيب السكتة حك … إنهض إنهض يا شعبنه كلشي عاصي يريد دك … إنهض إنهض يا شعبنه وينها فلوس النفط … إنهض إنهض يا شعبنه كافي مو بسكم شفط !!)

 

- كيف حل المنتفضون قضية الاكل والتموين ولأشهر طويلة ولألوف الأفواه ولعدة وجبات في اليوم؟

* حظيت انتفاضة تشرين بدعم ومباركة معظم الشرائح الاجتماعية والدينية بل وحتى الأحزاب السياسية غير المتورطة بفساد السلطة، فيما شكل دعم الشرائح الكادحة والفقيرة عنصرا مهما في إدامة زخم الانتفاضة، ولا سيما أصحاب المواكب والمتطوعين من الأهالي وأصحاب التكتك والستوتات الذين ابلو بلاءً حسناً في تأمين معظم متطلبات الانتفاضة من ماء وغذاء ونقل وغيرها.

وكانت هناك مساهمة فاعلة من الأسرة العراقية والنساء والأمهات، من خلال الطبخ وإعداد الطعام في منازلهن وتقديمه للمتظاهرين، فيما انتشرت الخيام للمفارز الطبية وخيام الاستشارة القانونية، وخيام اخرى لنشر الثقافة والفنون.

 

- ماهي أسباب تراجع الانتفاضة وفتورها الحالي؟

* جذوة الانتفاضة مازالت متوقدة، لقد تواصلت الانتفاضة لعامين وقدمت ما يقرب من ٨٠٠ شهيد، وأكثر من ٢٠ ألف جريح، وأسباب الفتور يعود لطول مدة الانتفاضة وانقلاب قوى مشاركة على المنتفضين أصرت وبالتنسيق مع السلطة على رفع خيام الاعتصام ومهاجمتها وحرقها، وحتى قتل من يعترض على ذلك، وهذا حصل في ساحة التحرير والنجف والناصرية وبابل. والفتور الحالي هو استراحة محارب، فدوافع اندلاع الانتفاضة مازالت قائمة كالفقر والبطالة والفساد والمحاصصة وفوضى السلاح، والاستئثار بالسلطة، وقريباً ستعود الانتفاضة بزخم أكبر.

عرض مقالات: