علي جبار (٣٣ سنة)، عامل توصيل طعام، يسكن مع زوجته وطفلتيهما في منزل صغير مبني على أرض تابعة للدولة في مجمع للسكن العشوائي يسمى “شفقة العامل”، يقع في منطقة المعقل شمالي البصرة. وبرغم قساوة ظروف السكن في هذا المجمع، إلا ان عليا وبقية السكان، تلقوا إنذارا من الحكومة بالإخلاء، دون بدائل سكنية.
وتعد “شفقة العامل” من أكبر عشوائيات البصرة، وكانت في الأصل حديقة عامة أنشأت سنة 1961 من قبل مصلحة الموانئ العراقية، التي تسمى حاليا “الشركة العامة لموانئ العراق”. وكانت الحديقة منشأة على الطراز الصيني، وفيها بناء داخلي يرمز الى “قبعة” تشبه تلك التي كان يرتديها عمال الموانئ في المعقل.
ويوضح علي في حديث صحفي، أنه “لم يكن لدي خيار سوى شراء هذا المنزل قبل 5 سنوات، لأن ثمنه كان زهيداً، على أمل أن يتم تمليكه لي من قبل الدولة، مثلما حصل في مناطق أخرى”، مستدركا “لكنهم الآن يصرون على إخلائه، ولا أدري ماذا سأفعل، فأقل بدل إيجار منزل يصل إلى 500 ألف دينار، وهو مبلغ كبير بالنسبة لي. فأنا مجرد عامل توصيل وليست لدي سوى دراجة نارية، وزوجتي ربة بيت”.
وفي ظل عقود من الحروب والأزمات والتخبط الاداري والفساد، انتشرت العشوائيات في العديد من مناطق البصرة، شأن العاصمة وبقية المحافظات. وتواجه تلك المناطق مشكلات خدمية كثيرة. فهي غير مشمولة بخدمات مياه الإسالة والطاقة الكهربائية والمجاري. كما انها لا تضم مدارس ومراكز صحية. وهذا ما كان يقلق علي جبار. فإبنته الكبرى ستلتحق بالمدرسة في العام المقبل، وهو لا يعرف كيف سيوفق بين عمله وبين إيصالها إلى مدرستها وإعادتها منها. لكنه يعود ويستدرك: “هذا إذا بقينا في منزلنا ولم نُجبر على إخلائه”!
وتقدر أعداد التجاوزات على أراض تعود ملكيتها لبلدية البصرة، نحو 100 ألف تجاوز – حسب ما يذكره نائب محافظ البصرة السابق محمد طاهر التميمي في حديث صحفي. بينما تقدر أعداد التجاوزات على الأراضي الزراعية بنحو 200 ألف تجاوز. وتعود ملكية هذه الأراضي إلى وزارة المالية، ولا يسمح القانون ببناء منشآت غير زراعية عليها.
فيما يلفت المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، إلى أن هناك أكثر من 700 مجمع سكني عشوائي في البصرة، من أصل 4600 مجمع في عموم البلاد.
لا حلول جذرية
من جانبه، يقول الناشط المدني علاء التميمي ان “العشوائيات في البصرة عديدة، وأكبرها في منطقة شفقة العامل وفي مركز المحافظة. وهناك أيضا عشوائيات في الأقضية والنواحي”، مؤكدا في حديث صحفي “عدم امتلاك الحكومتين المحلية والمركزية حلولاً جذرية للمشكلة”.
ويرى ان “الحل يكمن في بناء مجمعات سكنية، وبيع وحداتها للمواطنين بأقساط مريحة. فمثلا يتم بناء شقق تحتوي كل منها على غرفتين وصالة، وهذه كافية لعائلات كثيرة، بل إنها حلم بالنسبة إليها”!
وتحت ضغط الظروف الاقتصادية والمعيشية والاضطرابات السياسية والإهمال والفساد الحكوميين وضعف تطبيق القانون، تحول العديد من المساحات الخضراء، كـ”شفقة العامل”، إلى مجمعات للسكن العشوائي. وحسب الناشط التميمي فإن “هذه الحديقة كانت متنفساً للعائلات، وباتت اليوم مكانا تتراكم فيه النفايات والأنقاض”.
جهات مدعومة سيطرت على الحديقة!
أما الناشط المدني علي سلمان العقابي، فيذكر في تقرير صحفي أعدته شبكة “نيرج” للصحافة الاستقصائية، أن “جهات مدعومة (لم يحددها) تمكنت من السيطرة على شفقة العامل في السنوات الأخيرة، وحولتها إلى منطقة سكن عشوائي لأناس من البصرة أو من خارجها، ولم تستطع الحكومة المحلية فعل شيء يذكر”!
ويتهم العقابي تلك الجهات بـ “الاستحواذ على مساحات كبيرة من الأراضي في البصرة، وقيامها بتقطيعها وبيعها كأراضٍ سكنية للمواطنين بدون أوراق رسمية”!
ويتابع قائلا ان “الانفلات الأمني وسيطرة جهات مسلحة على مقاليد الأمور في العراق بعامة والبصرة بخاصة، كل ذلك أدى إلى الاستحواذ على مبان وأراض شاسعة تم بيعها بطرق غير قانونية، لتكون عبارة عن أحياء غير نظامية تفتقر إلى أبسط الخدمات”.
أسعار المنازل العشوائية في المتناول!
أبو نور، صاحب مكتب عقارات في منطقة المعقل، يقول في حديث صحفي ان “سعر المتر المربع الواحد للعقارات السكنية النظامية في المعقل، يتراوح بين مليون و750 ألف دينار ومليوني دينار. أي ان المنزل الذي تبلغ مساحته 100 متر مربع، يصل سعره إلى 200 مليون دينار”.
ويتابع قائلا: “أما في العشوائيات كشفقة العامل، فتتراوح أسعار المنازل بمساحة 200 متر مربع بين 30 و40 مليون دينار، والمنازل بمساحة 100 متر تتراوح أسعارها بين 10 و15 مليون دينار”، لافتا إلى ان “الكثيرين من المواطنين يتوجهون لشراء المساكن العشوائية، بسبب عدم امتلاكهم أموالا لشراء منازل نظامية”.
ويشير إلى انه “بدلاً من استئجار الشخص عقارا يكلفه في السنة 3 ملايين دينار، يشتري مسكنا في منطقة عشوائية بسعر 10 ملايين دينار مثلا، ويتوقع بأنه سيشغله لسنوات طويلة قبل أن يتم تمليكه له أو إزالته. لذلك فهو خيار أفضل من السكن في الإيجار”!
سكن بلا عيش كريم!
محمد سعد (40 سنة)، متزوج ولديه 3 أطفال، ويعمل موظفاً في دائرة كهرباء البصرة، ويسكن في منزل عشوائي في “شفقة العامل”.
يقول في حديث صحي أنه ينتمي لأسرة مكونة من أربعة أشقاء كانوا يسكنون جميعاً في منزل العائلة في المعقل، لكن المنزل بدأ يضيق عليهم بعد أن تزوجوا. لذلك اشترى منزلا متجاوزا في “شفقة العامل”.
ويتحدث عن منزله قائلا: “انه لا يلبي العيش الكريم لعدم وجود خدمات. ففي الشتاء تغرق المنطقة بالمياه الآسنة ولا نتمكن من الخروج”، مستدركا “لكن لم يكن لدي خيار سوى شراء هذا المنزل. فأنا لا أمتلك مالا كافيا لشراء منزل نظامي”.
ويوضح محمد أن “المنطقة غير مخدومة بالشبكة الكهربائية، والسكان سحبوا الكهرباء بواسطة اسلاك من مناطق بعيدة، وهذه غير آمنة وتسببت في وقوع حوادث صعق راح ضحيتها أطفال من المنطقة”، مشيرا إلى أن “الأهالي، وغالبيتهم فقراء، يناشدون الحكومتين المحلية والمركزية إنهاء معاناتهم”.
ويستدرك “لكن بدلاً من ذلك ارسلوا تبليغات بإخلاء منازلنا، وهددونا بهدمها”.
أما أم أحمد (44 سنة)، فهي تعمل خياطة لمساعدة زوجها الموظف الحكومي، بما يمكنهما من اعالة 5 أطفال.
تقول في حديث صحفي ان “شراء منزل نظامي حلم بالنسبة لنا، ولن يتحقق ربما لعقود، لهذا اشترينا منزلا صغيرا في شفقة العامل”، مضيفة قولها أن “الحكومة، بدلاً من أن تقدر ظروفنا الصعبة، وتوفر لنا الخدمات، وتسهل أمور حياتنا، تهدد بطردنا وتشريدنا مع أطفالنا في الشوارع. ونحن لا نعرف ماذا نفعل، وكيف سيكون مصيرنا لو نُفذ الهدم”.
جور الزمان!
إلى ذلك، يقول أبو زينب (٤٧ سنة)، وهو بائع جوال لأنابيب الغاز، ويشغل مسكناً صغيراً مع زوجته وأطفاله الـ6 في “شفقة العامل”، أنه اضطر قبل سنوات، لبناء مسكنه هناك دون موافقات حكومية.
ويتفهم أبو زينب، كما هو الحال مع المئات من جيرانه، انه بنى منزله على أرض تملكها الدولة، وقد يُسترد منه في أي وقت. ويقول: “أعرف ان الأمر يمثل تجاوزاً، لكني فعلت ذلك حين عجزت الدولة عن تأمين فرصة عمل تدر لي دخلا يكفي لبناء بيت يليق بي كمواطن”.
ويتابع قوله: “لا يمكن لأحد أن يزيل منزلي المتواضع هذا إلا بعد أن يوفر لي منزلاً بديلاً يؤويني وعائلتي من جور الزمان والظلم الذي كنا وما زلنا نعيشه”!
أما محمد صالح حسين (45 سنة)، وهو متزوج ولديه 4 أطفال، ويسكن مجمعاً عشوائياً جنوبي البصرة، فيقول ان “الدولة عاجزة عن تنفيذ وعودها بإنشاء بدائل للعشوائيات. كأن تبني مجمعات سكنية واطئة الكلفة، أو تخصص أراضي أو تصرف تعويضات نقدية مرضية”.
الحكومة المحلية: التعويض للبصريين فقط!
وتعاني المحافظات الجنوبية الملاصقة للبصرة، حياة معيشية صعبة وتدهورا في الخدمات وندرة في فرص العمل، الأمر الذي دفع بالكثير من سكانها إلى التوجه للسكن في البصرة، لوجود فرص عمل أكثر. لكن من البديهي ان هؤلاء لن يتمكنوا من شراء أو استئجار منازل نظرا لارتفاع أسعار العقارات وأبدال الإيجار بشكل مبالغ فيه، الأمر الذي يضطرهم إلى السكن في العشوائيات، ما يعني انهم معرضون للإخلاء في أي لحظة تحت وطأة حملات رفع التجاوزات. وفيما تعلن حكومة البصرة عبر وسائل إعلام نيتها تعويض المتجاوزين بعد إخلاء تجاوزاتهم، تقر بأن التعويض لن يشمل سوى أهالي البصرة، أما أهالي المحافظات الأخرى فليس لهم سوى خيارين: أما الرجوع إلى محافظاتهم أو استئجار منازل أصولية!
وفي هذا الصدد، قال مدير بلدية البصرة فراس عبد الخالق، في حديث صحفي سابق، انه “سيتم دفع تعويضات لابناء البصرة في حال هدم منازلهم، اما أبناء ميسان فليعودوا الى محافظتهم، او يستأجروا منازل أصولية”.
وكان محافظ البصرة أسعد العيداني، قد أفاد في حديث صحفي سابق بأن “هناك أكثر من 30 ألف قطعة ارض في المحافظة سوف توزع على مستحقيها، لا سيما سكان العشوائيات، شرط ان يكون مسقط رأسهم محافظة البصرة”، مبينا أنه ملزم بحفظ كرامة الوافدين إلى المحافظة، ممن يسكنون العشوائيات، لكن ليس هناك أي باب أو فقرة قانونية تسمح له بتخصيص أراض سكنية لهم “لذا فإن الحل الوحيد الذي أمامهم هو شراء أو استئجار منازل في المحافظة”!
وأثارت تصريحات العيداني موجة انتقادات رسمية وشعبية. إذ اتهم بالعنصرية، وبأن القصد من تصريحاته هو ترحيل أبناء المحافظات الأخرى من البصرة، في الوقت الذي يقر فيه الدستور بأن العراقيين سواسية، ولهم الحق في السكن في أي محافظة دون استثناء.