اخر الاخبار

طوال السنوات العشرين الماضية طرأت تحسينات تدريجية على معيشة الكثيرين من العراقيين، سواء بفضل الرواتب بالنسبة لموظفي القطاعين العام والخاص، أم بفضل افتتاح مشاريع صغيرة ومتوسطة. وبالرغم من هذا التحسن، لا تزال عائلات كثيرة تصنف ضمن خط الفقر أو تحته، وأخرى تعد مسحوقة تماما، لا تملك سقفا نظاميا يحميها من الشمس والمطر، ولا تجد ما تقتات عليه إلا في مطامر النفايات!

في كركوك امرأة تدعى جميلة أحمد سعيد (57 عاماً)، أم لطفلتين وصبي صغير لم يجلسوا يوماً على مقاعد الدراسة بفعل الفقر المدقع. هذه العائلة مثال حي للعائلات المسحوقة المشرّدة التي لم تجد سوى مساحة صغيرة في إحدى الدوائر الحكومية، لتتخذها مأوى لها.

تستيقظ جميلة فجر كل يوم مصطحبة معها ابنها الصغير، لتجرّ عربتها الحديدية متوجهة نحو مواقع الطمر الصحي، في سباق مع غيرها من “النباشة”، وهم أشخاص مثلها يمتهنون البحث في أكوام النفايات عما يمكن بيعه لأصحاب معامل إعادة تدوير المعادن والبلاستيك والورق المقوى. لكن هؤلاء قد يبدون أفضل حالا من جميلة بنسبة ضئيلة. إذ تسميهم “أصحاب الستوتات”!

وترفض جميلة الصدقة والإحسان من أحد. وعن ذلك تقول في حديث صحفي: “الحياة صعبة، لكنني امرأة عراقية حرة أرفض أن أمد يدي للصدقة، لذلك أعمل لتأمين لقمة أطفالي”.

وتضيف قائلة ان “مواقع الطمر الصحي مهمة بالنسبة لنا. فأنا أقصدها منذ ساعات الصباح الأولى وقبل وصول فرق النباشة من أصحاب الستوتات، فأبحث مع ولدي محمد عن المواد التي تباع في الأسواق المحلية وعلى معامل التدوير، من قناني المشروبات الغازية الزجاجية والمعدنية والبلاستيكية وقطع الحديد والنحاس وغير ذلك الكثير، فنجمعها بأكياس كبيرة ونعود بها إلى البيت، وهناك نقوم بفرزها استعدادا لبيعها”.

وتوضح أن “في النفايات كميات كبيرة من الخبز، نقوم بفرزها أيضا، ونعرضها تحت الشمس لتجف تماما، وبالتالي نبيعها لأصحاب الماشية كعلف للحيوانات”، مبيّنة أن “جميع المواد التي نحصل عليها نحن وغيرنا من النباشة تباع بالوزن. وكلما زادت الأوزان زاد معها المردود المالي. وما نحصل عليه من مال نشتري به قوتنا اليومي”.

عمل شاق تحت الشمس

تلفت جميلة إلى أن “العمل ليس بالسهل كما يظن البعض، نحن نسير مسافات طويلة بحثاً عن غايتنا في حاويات النفايات ومواقع الطمر الصحي. في الصيف تحرقنا أشعة الشمس، وفي الشتاء تتجمد أيدينا وأجسادنا ويؤذينا المطر.. لكن هذه هي الحياة”!

وتتابع قائلة: “حياتي مكرسة لتربية أطفالي، لذلك لا تهمني مشاق العمل على الرغم من مردوده المالي البسيط جداً، الذي يتراوح في اليوم الواحد بين 10 و 20 ألف دينار في أحسن الأحوال”، مشيرة إلى انها بلا زوج معيل، وبلا أهل يساعدونها في تأمين معيشتها وأطفالها.

امرأة تحارب الصعاب

من جانبه، يقول مصطفى، وهو جار السيدة جميلة، ان “أم محمد تسكن في الجهة المقابلة لحي الحجاج في مسكن صغير متجاوز على املاك الدولة”، مبينا في حديث صحفي ان “أهالي الحي يقدمون لها مساعدات بين حين وآخر”.

ويؤكد ان “أم محمد تعتبر نموذجاً للمرأة التي تحارب الصعاب لتوفير لقمة عيش صغارها. فهي تخرج وقت الفجر ولا تعود إلا بعد الظهر تحمل على عربتها الطعام لصغارها الثلاثة البنتين والولد”.

النباشة يتعاطفون مع جميلة!

إلى ذلك، يقول سامي شهاب، أحد العاملين في نبش النفايات، أن “النباشة الذين يعرفون قصة أم محمد لا يذهبون إلى المواقع التي تقصدها. فهم يتعاطفون معها ويتركون النفايات لها، لعلها تحصل على شيء تعيل به أطفالها”.

ويضيف في حديث صحفي قائلا: “نحن نعرف جميلة، أنها إنسانة تستحق المساعدة، وهي تقصد مواقع النفايات في أحياء محدودة. لذلك نمنع أنفسنا من التقرب من المواقع التي تعمل فيها، كوننا نعرف ظروفها القاسية”.

وتعمل أعداد كبيرة من العراقيين، ممن سحقتهم الظروف المعيشية الصعبة، في مهنة “النباشة”، أفرادا وعائلات. إذ يجمعون من مطامر النفايات مواد معدنية وبلاستيكية يبيعونها لمعامل التدوير بمبالغ زهيدة بالكاد توفر لقمة عيش بسيطة. ويعمل هؤلاء في بيئات شديدة التلوّث ما يتسبب في إصابتهم بأمراض خطيرة وجروح، لا سيما ان معظمهم يقوم بحرق النفايات للكشف عن المواد المعدنية، وبالتالي يتصاعد دخان سام ملوّث يضر بهم وبالسكان القريبين. يأتي ذلك في الوقت الذي عجزت فيه الدولة عن تحقيق العدالة في توزيع الثروات وفرص العمل، وعن وضع حلول ناجعة لمشكلة تصاعد نسبة الفقر، والتي بلغت نحو 21.5 في المائة من عدد السكان (ما يعادل 10 ملايين مواطن) - وفقاً لمسح أجرته وزارة التخطيط في النصف الثاني من العام الحالي.