اخر الاخبار

يرتدي أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاما، ملابس متسخة وهم يحملون عِدد تصليح السيارات في منطقة الشيخ عمر الصناعية في بغداد، ليؤدوا عملهم اليومي كما لو كانوا رجالاً، لكن لمجرد النظر إليهم سيتبين انهم يعيشون وضعا قاسيا.

هذا المشهد يتكرّر في مختلف مدن البلاد. إذ يمارس الأطفال أعمالاً شاقة بعضها لا يحتاج إلى جهد بدني كبير، لكنه يقضي على سنوات طفولتهم، بدلاً من الذهاب إلى المدرسة واللعب وممارسة الهوايات.

وتنقل وكالات أنباء عن أطفال عديدين من هؤلاء، قولهم انهم يملكون خبرات لا تقل عن خبرات رجال يفوقونهم عمراً وقوة بدنية، اكتسبوها من خلال سوق العمل ومخالطة الكبار. فبعضهم دخل إلى السوق بعمر 7 أعوام، وآخر بعمر أقل. من بين هؤلاء طفل اسمه أحمد سلام، ولد عام 2018 ولا ينوي الدخول إلى المدرسة لأنه اعتاد على أن يكون برفقة العاملين في الحي الصناعي الذي تسكن عائلته بالقرب منه، وهو لا يمارس مهنة محددة، بل يمكنه توصيل طلبات الطعام من المطاعم إلى الورش، ونقل الحاجيات والمشتريات لأصحاب المحال. ويؤكد سلام في حديث صحفي، أن ما يتقاضاه يومياً من نقود قليلة هو المصدر الرئيس لمعيشة أسرته المكونة من أب مريض غير قادر على العمل، وأم وشقيقتين تكبرانه بأعوام قليلة. وتشهد عمالة الأطفال انتشاراً واسعاً في العراق، وسببها الأول الفقر. ويفيد المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان بأن العراق يحتل المرتبة الرابعة عربياً في عمالة الأطفال بعد اليمن والسودان ومصر، ويتركز عملهم في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات.

ويمنع قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015، تشغيل الأطفال دون سن 15 عاما، ويحصر السماح بتشغيل من هم بين 15 و18 عاما وفق شروط وتحت رقابة وفي مهن محددة. أما دوليا، فإن المادة (32-1) من اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها العراق عام 1994، تنص على: “تعترف الدول الأطراف بحق الأطفال في حمايتهم من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يرجّح أن يكون ضارا بصحة الطفل أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي”.

وبالرغم من القوانين، لا تزال أعداد كبيرة من الأطفال تنتشر في الأسواق والأحياء الصناعية وعلى مكبات النفايات، وتعمل في ظروف قاسية، سعيا إلى توفير بضعة دنانير تعيل بها أسرها الفقيرة.

تلميع الأحذية بأيدي الصغار!

للعام الرابع على التوالي، يزاول مهند صالح (11 سنة) مهنة تلميع الأحذية، متخذاً من مواقع عدة في بغداد مقرات لعمله، بينما يرافقه ابن خالته الذي يكبره بـ6 أعوام. ويجلس هذا الفتى خلال فترة الصباح، أمام مقهى يقع إلى جوار أحد المصارف، وبالقرب من العديد من الشركات التجارية. إذ يطلب منه كثيرون تلميع أحذيتهم. ثم ينتقل وقت الظهر إلى موقع آخر، وفي المساء يختار موقعاً في منطقة تضم مطاعم.

يقول مهند إنه لم يعد يأبه لحياة الطفولة، وانه ترك الدراسة قبل عامين وانخرط في العمل جراء الديون التي تراكمت على كاهل والدته المنفصلة عن والده، مبينا في حديث صحفي انه من خلال عمله سدد تلك الديون.

ويضيف قائلا: “أسعى إلى جمع المال حتى أبدأ العمل بتجارة السلع الكهربائية، وهو مشروع المستقبل الذي أحلم به. فأنا حاليا أكسب جيداً من عملي، وأصبحت أعرف كيف أختار زبائني، وكيف أقنعهم بأن يدفعوا أكثر”. ومن بين الأطفال المنخرطين في سوق العمل، هناك من يحرص على الاستمرار في دراسته، مثل جعفر هاشم (14 سنة) الذي يحلم أن يكون محامياً.

يذكر جعفر في حديث صحفي أنه يدرس جيداً إلى جانب العمل، ولم يتبق أمامه سوى أربعة أعوام ليدخل كلية الحقوق. ويعمل هذا الفتى في بيع الملابس بالتجزئة في سوق شعبي وسط بغداد، ويمتلك بسطة صغيرة يعرض عليها بضاعته من ملابس الأطفال.

ويقول: “أنا وأخي ليث الذي يكبرني بعامين نعمل وندرس، وقد اضطررنا إلى العمل بسبب سوء الوضع المعيشي لعائلتنا. إذ نساعد والدنا في الإنفاق على تعليم بقية إخوتنا. فنحن عائلة كبيرة مكونة من 3 أولاد و4 بنات”.

أضرار جسدية ونفسية واجتماعية

يلفت باحثون اجتماعيون إلى أن الأطفال في حال لم يعيشوا طفولتهم سيعانون أضرارا جسدية ونفسية واجتماعية. وتقول الباحثة الاجتماعية ميس النداوي، ان “هناك العديد من العوامل التي تجبر الأهالي على دفع أولادهم إلى العمل بدلاً من الدراسة، من بينها الفقر، والحاجة الماسة نتيجة مرض المعيل أو التعرض لخسارة مالية، وأيضاً النزاعات المستمرة والأوضاع الأمنية السيئة التي قد تؤدي إلى انقطاع الدراسة وتشتت الأسر، ما يجبر الأطفال على البحث عن وسيلة للعيش”، مبينة في حديث صحفي ان “العائلات التي تعاني الفقر قد لا تجد بديلاً سوى عمل أطفالها، وفي بعض الأحيان، يكون دخل الطفل المادي مهماً لاستمرار عيش الأسرة”. وتلفت النداوي إلى أن “هناك مشكلات عديدة يعيشها المجتمع جراء عمالة الأطفال، منها تأثير العمل سلبا على صحة الطفل ونموه الجسدي والنفسي. فالصغار يعملون اليوم في بيئات قاسية، ويختلطون بمختلف الشرائح الاجتماعية، ما يشكل خطراً على مستقبلهم، في الوقت الذي تفيد فيه تقارير حكومية وغير حكومية عديدة، بأن عدداً كبيراً من الأطفال يزاولون أعمالاً غير قانونية مثل الاتجار بالمخدرات”.

قوانين مشلولة!

إلى ذلك، تقول الباحثة الاقتصادية حوراء الياسري في حديث صحفي سابق، أنّ “هناك تقارير دولية تبيّن أنّ نحو 4 ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، غالبيتهم من الأطفال”، مشيرة إلى أنّ “إحصاءات وزارة التخطيط تفيد بأنّ عمالة الأطفال تشكل ما بين 1 و2 في المائة من سوق العمل.” وتحذّر الياسري من أنّ “عمالة الأطفال تمثّل خطراً كبيراً، لأنّها وصلت إلى المرحلة الأشدّ سوءا في تاريخ البلاد، بسبب قوانين الدولة المشلولة التي لم تعالج أصل المشكلة المتعلقة بالوضع الاقتصادي المتردّي لعائلات كثيرة تزجّ بأبنائها في سوق العمل”.  وتبيّن أنّ “قوانين وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تنصّ على معاقبة المتسبّب في تشغيل الأطفال بعقوبة تتراوح ما بين غرامة مالية ووقف التصريح المعطى لربّ العمل، أو حتى وقف النشاط”، مضيفةً أنّ “قانون الاتجار بالبشر يعاقب من يستغلّ شخصاً لا يعي حقّه، مثل الأطفال، بالسجن أو الغرامة المالية”. وتلفت الباحثة إلى أنّ “من الآثار السلبية التي قد تترتّب على عمالة الأطفال،  تعرّضهم للابتزاز والتحرّش، إضافة إلى تفكّك الأسرة والتسرّب المدرسي. ونظراً إلى هذه الآثار الجسيمة، لا بدّ من أن تكثّف الدولة جهودها في الحدّ من عمالة الأطفال، من خلال تحسين الوضع المعيشي للعائلات المتعفّفة عبر منحها قروضا ميسّرة، ومراقبة ربّ الأسرة، وأخذ تعهّدات خطية منه بعدم زجّ أطفاله في سوق العمل مقابل تلك القروض”.