في بيتنا الطيني، وسط القرية، ومع اطلالة الربيع وتفتّح الازهار والقدّاح الذي يفوح من ورود حديقتنا التي يعتني بها والدي ويجنّد العائلة بالعمل فيها من تنظيف وتسميد، خصّصت فيها «گعده» غطّيت بالثيّل، تحيطها أجمل الورود وخاصةً الجوري، تفوح منها رائحة الرازقي ووضعت لها إنارة خاصة لتنعكس ألوان الربيع على المكان، كان هذا في زمن يخلو من الحزن والأوجاع التي آلمتنا فيما بعد.
كان يجري الاستعداد للاحتفال بعيد الحزب في 31 آذار بهدوء وفرح وبهجة السبعينيات، وكان عرّاب الحفل وقائده هو أخي أنور الذي استشهد فيما بعد. أولى التحضيرات التي كانت تجري، شراء لوحة خشبيّة، ومسامير، وخيوط، يخط عليها أحد شعارات الحزب، لإحياء ذكرى وعيد ميلاده، يشتغل فيها أخي أنور أياماً، لتخرج حقاً لوحة فنيّة من يد فنان ثم يهديها لمقر الحزب في الحلة.
كانت مهمتنا نحن الصغار تفريط « صندوگين « من الرمان، وغسل الفاكهة والخضرة، أما ترتيب الزلاطة، والكرزات والنمنمات فهي مهمة أخي انور، طبعاً مع طبخ عشاء فاخر من قِبل أهل البيت.
عندما يحين الوقت، عشيّة العيد، يتوافد الأصدقاء والرفاق للبيت لإحياء حفلة الحزب، التي تبدأ بكلمة ترحيب، وتهاني ومن ثم تنشد أغاني الحزب التي كانت تشدّنا نحن الصغار وينشد الجمع، (عمّي يابو چاكوچ خذني خذني وياك …ذبني ويّه العمال حلوة عيشتي هناك). اتذكر إحدى الحفلات في بيتنا أحياها الفنان الحلاّوي، حمودي شربه، الذي «رحل مؤخراً»، وأبدع فيها في العزف والغناء بصوته الشجي الجميل.
للأسف لم تجر الأمور كما ينبغي، غدر النظام بالحزب، وبناته وأبنائه فأُعتقل أعضاءه، ومنهم من استشهد تحت طاحونة التعذيب، ومنهم من تشرّد في المنافي، ومنهم من بقي يناضل بشكلٍ سرّي، وأخوتي منهم الذين فقدوا وظائفهم بسبب ملاحقة النظام لهم، واختفوا عن أعين الأجهزة الأمنية ثماني سنوات اكثرها في مخابئ تحت الأرض. و للأسف استشهدوا عام 1991، لكن أخي كامل أفلت من مقصلة الموت بأعجوبة، حكم عليه بالإعدام في سجن أبو غريب، بعدها خفّض الحكم للسجن المؤبد وبقي هناك سنوات، خرج فاقد البصر تماماً نتيجة التعذيب الوحشي الذي تعرض له.
الاحتفال في السجن
يقول كامل كانت حياتنا في سجن أبي غريب صعبة في ظل نظام دكتاتوري ودموي، ولكن مناسبة عيد الحزب لا نغفلها أبداً نحن الشيوعيين، نحتفل بأساليب مختلفة وكان الاحتفال بالعيد مختلفا، بالرغم من الإجراءات الأمنية التعسفية والمراقبة المشددة للسجناء في قسم الأحكام الخاصة هناك.
كان الشيوعيون يستذكرون المناسبات الوطنية، ومنها ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي 31 آذار، وعيد المرأة العالمي في 8 آذار، و14 نيسان ذكرى تأسيس اتحاد الطلبة العام.، حيث نتهيأ قبل المناسبة بأيام ومن هذه التحضيرات (حلاقة شعر الرأس والذقون، تحضير الملابس النظيفة والجديدة، توفير الحلوى (الجكليت) لتوزيعها على الرفاق والأصدقاء بشكل سري، لقاءات محدودة، وأحياناً فردية للحديث عن هذه المناسبات وتاريخها، ونضال الشيوعيين وتضحياتهم.
كل هذا كان يتم بعيداً عن عيون الأجهزة الأمنية، وإدارة السجن تحوطاً من ممارساتها القمعية، ولكن هذا لا يمنع الرفاق من إحياء هذه المناسبات رغم الاستدعاءات المتكررة والوعيد والتهديد، وأحياناً يصل الأمر إلى حجز بعض الرفاق في زنزانات انفرادية. علماً أن هذا يتم في كل عام تقريباً وهذا يتوقف على حنكة وخبرة الرفاق والمناورة بحيث تكون بعيدة عن أنظار عملاء الأجهزة الأمنية.
للاحتفال بعيد الحزب عند الشيوعيين، طعم ومعنى خاص، واليوم اذ يوقد الشيوعيون تسعين شمعة لتاريخه الوضّاء، ومحطات سفره الحافلة بالتضحيات من أجل رفاهية الانسان وسعادته وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع، لا ننسى شهيدات وشهداء الحزب ممن ضحوا بحياتهم لإنارة الطريق نحو عالم أفضل.
ونبقى نردد دائماً في ميلاده (يا حزب الابطال، يا صوت الاحرار، عيدك للوطن أفراح وآمال)، كل عام وحزبنا ورفيقاتها ورفاقنا بخير.