فرض الوضع الأمني غير المستقر في عديد من المدن العراقية، نمطا معيشيا معينا على العائلات، سرعان ما انعكس سلباً على الصحة النفسية للأطفال. ويربط أطباء بين تصاعد مشكلات الصغار النفسية، ومنها الرغبة في الانعزال، وحرص الآباء على إبقاء أبنائهم داخل البيوت خوفا من التعرض للخطف أو أي أذى آخر.

ويزيد انعدام الملاعب والحدائق وفضاءات اللعب المخصصة للأطفال، لا سيما في المدن الهشة أمنياً والتي تتصاعد فيها جرائم الخطف والابتزاز، حجم المشكلة أكثر. إذ يلجأ الأهل عادة إلى الاستعانة بالأجهزة الإلكترونية اللوحية لتعويض حاجة أطفالهم للترفيه واللعب، والتخلص من إلحاحهم في الخروج من المنزل.

ولا تتوقف المشكلات النفسية التي يعانيها الصغار على الاضطرابات الأمنية وحرمانهم من اللعب خارج المنزل، فللعنف الأسري دور كبير في بلورة هذه المشكلات، خاصة انه بات يتفاقم باستمرار في ظل عدم تشريع قوانين لمناهضته – حسب ما تنقله وكالات أنباء عن اختصاصيين في الصحة النفسية ومنظمات معنية بالأطفال.

وتفتقر المناطق السكنية في معظم مدن البلاد، لوجود حدائق ونوادٍ ومساحات آمنة للعب الأطفال. إذ لا يتوفر سوى مدن ألعاب ومتنزهات تابعة غالبا لجهات استثمارية، وهذه يتطلب دخولها دفع أجور لا تقوى على تأمينها العائلات الفقيرة وذات الدخل المحدود. أما في المدارس، فلم تعد هناك فضاءات للّعب، من حدائق وساحات مجهزة بالوسائل المطلوبة، ولم تعد الإدارات المدرسية، في غالبيتها، تهتم بدرسي الرياضة والفنية اللذين يساهمان بشكل كبير في تعزيز الصحة النفسية للطفل، فضلا عن تنمية مواهبه – وفقا لتربويين وأولياء الأمور.

أرقام متصاعدة

يقول الطبيب الاختصاصي في الصحة النفسية للأطفال، د. وليد السعدي، ان أرقاما متصاعدة تسجلها البلاد في نسبة الأطفال الذين يعانون مشكلات نفسية، بدءا من الانعزال وطيف التوحد، مروراً بعدم القدرة على المواجهة أو إدارة حوار بسيط، وانتهاء بالعصبية وعدم تعلم المشاركة، وحتى ضعف التركيز وزيادة العدوانية.

ويرى الطبيب في حديث صحفي أن «هاجس الأمن يعد السبب الأول الذي يدفع الأهالي إلى منع اختلاط أطفالهم مع الآخرين من أقرانهم ، خاصة في الأحياء التي تشهد أو تسجل حوادث إجرامية مع الأطفال».

واضطرت عائلة الطفل آدم (7 سنوات) لتغيير مكان سكنها. إذ انتقلت إلى مكان آخر أكثر أمانا، في حي يسكنه عدد من أقاربها ومعارفها.

وتوضح والدة الطفل في حديث صحفي، أنه «اضطررنا إلى ذلك لضمان عدم تدهور حالة آدم النفسية. حيث أصبح غير قادر على الاستمتاع بألعابه داخل المنزل، ويبحث عن حديقة أو مكان في الخارج، ويتعامل مع المنزل وكأنه سجن. لذلك قررنا الانتقال لمنطقة أكثر أمنا، فيها فضاء مناسب للعب طفلنا خارج المنزل».

اللعب ضروري

الباحثة الاجتماعية هدى ناطق، تحث من جانبها الأهل على السماح لأطفالهم باللعب بحرية وبالطريقة التي يريدونها، دون أي تدخل، إلا إذا كان هناك خطر محتمل، مبينة في حديث صحفي أنه «يجب أن يحصل الأطفال على وقت كافٍ للعب كل يوم، حتى لا يصابون بالملل أو الإحباط».

وتضيف قائلة أنه «من خلال عملي، صادفت أمهات يشتكين من أطفالهن وصراخهم الدائم داخل المنزل أو تمردهم، ومع الاستبيان اتضح أنهن لا يسمحن لهم بالخروج من المنزل، أو يسمحن لوقت قليل جدا، بسبب خوفهن على أبنائهن من مخاطر خارجية، كالخطف أو الاعتداء أو العدوى المرضية»، مؤكدة أن «هذه القيود تثير تذمر الأطفال، وتؤثر على حالاتهم النفسية، لأنهم بطبيعتهم يميلون إلى اللعب مع أقرانهم في جو يتسم بالحرية».

وتشير الباحثة إلى أن «أكثر من 80 في المائة من الأطفال، ممن يعانون اضطرابات نقص التركيز وفرط الحركة أو طيف التوحد ونوبات الغضب والاكتئاب، تتحسن حالاتهم الصحية والنفسية بعد أن يتم تناول تلك المشكلات في العلاج باللعب».

فوائد اللعب

إلى ذلك، يفيد الاختصاصي في علم النفس عدنان محمود، بأن «لعب الأطفال في الساحات المفتوحة أو بالقرب من المنازل أو في الحدائق العامة، يستهلك منهم الكثير من الجهد، وهذا ما يجعلهم يأكلون جيدا ويفكرون بشكل أفضل. كما انه يساهم في تعويد أجسادهم على النشاط، وبالتالي يجعلهم أكثر مرونة ويقوي لديهم النظام المناعي بصورة ملحوظة».

ويضيف في حديث صحفي أن «كل هذه الفوائد تجعل الطفل أكثر سعادة في حياته وتدفعه ليتطور بصورة أسرع ويتخطى العديد من العقبات، لأن الأماكن المفتوحة تجعل شخصيته أكثر قوة واتزانا، وتعزز قدرته على الاعتماد على نفسه في مواجهة أي موقف يتعرض له خارج المنزل».

ويلفت محمود إلى ان «دراسات عديدة أكدت أن نحو 70 في المائة من الأطفال ممن يبلغون من العمر 4 إلى 14 عامًا، يعانون أمراضا نفسية، منها الخوف والتردد والعصبية والخجل، وذلك بسبب الكبت وعدم السماح لهم بالخروج واللعب في المساحات المفتوحة»، محذرا من جعل الألعاب الإلكترونية بديلا عن اللعب في الخارج «فالأطفال الذين يلعبون خارج المنزل أكثر نشاطا وذكاء وإبداعا وسعادة وصحة نفسية وجسدية».

ويشدد على أهمية انضمام الأطفال إلى المعسكرات الصيفية التي تنظمها مؤسسات محلية «فهذه المخيمات تعزز مهارات الطفل الاجتماعية والقيادية، وتمكنه من الاعتماد على نفسه، وتزيد قدرته على التواصل مع الآخرين».

وكانت الحكومة العراقية قد أطلقت في أيار 2022 بالتعاون مع منظمة اليونيسف، الاستراتيجية الوطنية لتنمية الطفولة المبكرة. وتمثل الاستراتيجية نهجاً يعترف بالمراحل المختلفة في تنمية الطفل حتى سن الثامنة، ويُحمّل السلطات المعنية ومقدمي الخدمات والمجتمعات، مسؤولية تأمين احتياجات الأطفال الصغار، وتعزيزها وحمايتها.