أجرى معهد الدراسات الإقليمية والدولية في الجامعة الأمريكية بالسليمانية وبالإشتراك مع معهد السلام، بحثاً حول دوافع وعواقب أزمة ندرة المياه في العراق، شارك فيه سرهنك حما سعيد و ماك سكيلتون وزمكان علي سليم. واشار البحث إلى أن من المتوقع أن يكون العراق من بين الدول الخمس الأكثر تضررا من تأثير تغير المناخ، حيث يشهد انخفاضًا في إمدادات المياه وتسارعًا في التصحر، أدى لفقدان 100 ألف دونم من الأراضي الصالحة للزراعة كل عام، وفقًا لمصادر الحكومة العراقية والأمم المتحدة. وتهدد هذه الظواهر المناخية سبل العيش والأمن الغذائي لسكان العراق الذين يقدر عددهم بنحو 43 مليون نسمة، مما يخلق ظروفاً للنزوح وعدم الاستقرار وتدهور التماسك الاجتماعي. وقد تفاقمت أزمة المياه بشكل مطرد وسط الجفاف الشديد، وممارسات بناء السدود عند المنبع في تركيا وإيران، وزيادة الاستهلاك المحلي داخل حدود العراق.

 مخاطر جدية

وأضاف البحث بأن تأثير تغير المناخ يتزايد سنوياً، لاسيما في ظل النمو السكاني الكبير الذي من المتوقع معه بلوغ سكان العراق 80 مليون نسمة بحلول عام 2050، في وقت تتناقص فيه موارد البلاد وترتفع درجات الحرارة بمعدل أسرع بنحو سبع مرات من المتوسط العالمي، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات المياه من خلال التبخر. ومن المرجح ان تنخفض بحلول نهاية هذا القرن، مستويات المياه في نهري دجلة والفرات بنسبة لا تقل عن 30 بالمائة وقد تصل إلى 70 بالمائة، مما يستلزم التخطيط طويل المدى لإدارة الموارد، وخاصة في المناطق الزراعية، التي أدى فقدان سبل العيش فيها بسبب شحة المياه، إلى تسريع الهجرة خاصة في المحافظات الجنوبية والوسطى (تجاوز عدد النازحين 131 الفاً حتى الان) وإلى إثارة بعض النزاعات المحلية.

وأعرب الباحثون عن تصورهم بوجود عوامل إضافية لأزمة المياه، تهدد استقرار العراق وتقدمه، كانعدام الثقة المتزايد بالدولة بشأن الخدمات والفساد وكالإستقطاب السياسي وانتشار السلاح المنفلت بلا ضوابط والتدخل الإقليمي والآثار الاجتماعية والبيئية لعقود من الحرب، وهي مشاكل قد تؤدي إلى تقويض جهود العراق الطموحة في مجال التنمية، مثل مشروع “طريق التنمية” وخطط التنمية الاقتصادية في إقليم كردستان. ودعا الباحثون إلى أهمية اتباع نهج جديد على مستوى نظم إدارة المياه في عصر تغير المناخ، وتبني استراتيجية أكثر شمولية ومشاركة عاجلة ومستدامة على جميع المستويات، الدولية والإقليمية والمحلية.

 العوامل الإقليمية

واشار البحث إلى قيام تركيا بتوسيع شبكتها من السدود الجنوبية كجزء من برنامج طموح لتحسين البنية التحتية المائية، في حين أصبحت إيران أكثر تصميماً على تحويل الأنهار المشتركة نحو تلبية احتياجاتها الفورية من المياه، مما يجعل المعالجة الجادة لمشكلة تقاسم المياه عبر الحدود بعيدة المنال.

واعتبر البحث قدرة العراق على التأثير محدودة، حيث يرى المسؤولون العراقيون أن طهران تميل إلى اتخاذ قرارات أحادية الجانب دون التشاور مع الشركاء العراقيين، فيما لم تترجم المحادثات المنتظمة مع تركيا إلى اتفاق رسمي بشأن بناء السدود وتخصيص المياه، رغم وجود آراء ترى في استخدام العراق لملف الطاقة والتجارة والمجالات الأخرى، ورقة فعالة في المفاوضات، وهو ما ركزت عليه خطة أعدها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تهدف لبناء القدرات في مفاوضات المياه، لمساعدة الوكالات الحكومية ذات الصلة مثل وزارة الموارد المائية ووزارة الخارجية ووزارة البيئة.

 العوامل المحلية

وحول العلاقة بين الإقليم والمركز فيما يخص ملف المياه، أكد الباحثون على ان أكبر السدود والخزانات العراقية تقع في إقليم كردستان، حيث يتدفق 85 بالمائة من المياه جنوباً، وهو أمر لم يدخل في الخلافات بين أربيل وبغداد، ماعدا شكاوى الأولى من عدم اهتمام الحكومة الإتحادية بتوفير الدعم المالي اللازم لصيانة السدود ومرافق تنقية المياه في الإقليم لتجنب تلوث نهر دجلة ومنع انتشار الأمراض في بقية أنحاء العراق.

واشار الباحثون إلى صعوبة تحقيق التوزيع العادل للمياه مما يخلق نزاعات ساخنة في الوسط والجنوب حول حصص المياه وحدودها، حيث اتهمت محافظات المصب محافظات المنبع باستهلاك أكثر من الحصة التي حددتها وزارة الموارد المائية. كما دأب المزارعون الذين يعيشون بالقرب من نهاية قناة الري على اتهام المزارعين عند المنبع بإستنزاف كميات من المياه أكبر مما يُسمح به، من خلال تمديدات الأنابيب غير القانونية. واقترح الباحثون بذل المزيد من الجهود لتطوير حلول مستدامة وطويلة الأجل لهذه المشكلة.

 مشاكل الإدارة

ودعا البحث إلى عدم التقليل من أهمية تعزيز فعالية الوزارات الأساسية المختصة بإدارة المياه، والتي رأوا بأن دورها هامشي، ولا يمكنها انجازه الا بدعم من الوزارات الأخرى، حيث لا تستطيع وزارة الموارد المائية مثلاً تطوير استراتيجية جديدة لإدارة المياه والبنية التحتية دون دعم من وزارة المالية ووزارة التخطيط ومجلس النواب. كما لا تستطيع وزارة البيئة أخذ زمام المبادرة في استراتيجية تغير المناخ، بسبب شحة مواردها، مما يجعلها تعتمد وتمتثل للكيانات العامة الأكثر قوة، كوزارة النفط المحورية.

 صعوبات ومحاذير مستقبلية

واشار البحث إلى أن السنوات المقبلة تنذر بظروف مناخية أكثر قسوة، كتراجع معدلات تساقط الثلوج في المنطقة الجبلية الجنوبية الشرقية من تركيا وجنوب غرب إيران بشكل كبير من الآن وحتى عام 2050، وبالتالي تقليل ذوبان الجليد في مجاري وأنهار العراق. وبحلول عام 2035، ستصل الفجوة بين العرض والطلب، حسب البحث إلى ما يقرب من 11 مليار متر مكعب من المياه سنويا.

وكتدخل من المجتمع الدولي، ذكر البحث بأن وكالات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الكبرى قد طرحت مجموعة من المبادرات وبرامج التعاون مع الحكومة العراقية بشأن تغير المناخ والتدهور البيئي وندرة المياه. لكن هناك العديد من التساؤلات الجدية بشأن الأولويات ومدى استمرارية الجهود والتدخلات الدولية على المدى الطويل، حيث تركت حرب أوكرانيا وغزة مثلاً تأثيراً سلبياً على حجم تمويل هذه المبادرات، إضافة إلى الشعور بأن واردات العراق المالية، في ظل ارتفاع اسعار النفط، تقلل من حاجته للدعم الدولي.

ونبّه الباحثون إلى وجود صعوبات أخرى تعرقل نجاح خطط مواجهة المشكلة، كمشكلة البيروقراطية، ووجود بنية تحتية معقدة ومتداعية للمياه، تديرها الدولة، تشمل عشرات السدود وأنظمة الري والخزانات، التي تحتاج لاهتمام عاجل، إضافة إلى أهمية التزام بغداد وأربيل بالمشاركة المستدامة والشاملة على جميع مستويات نظام إدارة المياه الاتحادي وفي إقليم كردستان.

ورأى الباحثون بأن على الحكومة العراقية أن تتخذ الخطوة الأولى لتطوير ــ ثم تنفيذ ــ استراتيجية شاملة للمياه تتماشى مع حقائق تغير المناخ، وأن لا يتم وضع الوثائق الاستراتيجية على الرف عند الانتهاء منها.