اخر الاخبار

تعّد سياسة التحالفات الإنتخابية، من أبرز مهام اليسار صعوبة وأكثرها حاجة لتشخيص الواقع الملموس على ضوء الطبيعة الطبقية للقوى السياسية الفاعلة في المجتمع، حاكمة ومعارضة.

وبسبب الإختلاف الجوهري بين مجتمعات المركز ومجتمعات الدول التابعة، تتباين سياسات اليسار التحالفية بشكل كبير. ففي المجتمعات المتطورة، ذات الطبقات الإجتماعية المتميزة، تعتبر مهمة صيانة مكتسبات دولة الرفاه الإجتماعي وتطويرها، قاسماً مشتركاً بين أطياف اليسار، وحداً أدنى للتقارب والتعاون مع القوى الأخرى. وقد ساهم الهجوم التدريجي على هذه المكتسبات وتفاقم الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والبيئية وتنامي البطالة وتزايد الضغط على قطاعات واسعة من العاملين، بما فيهم الطبقة الوسطى، في حدوث تغيرات كبيرة على الخارطة السياسية.

فقد تدهورت شعبية أطياف يسارية، حين تخلت عن بعضٍ من برامجها من أجل الإنخراط في حكومات الوسط أو اليمين، مما أضعف مصداقيتها ليس لدى الناخبين فحسب، بل وأيضاً في سياق إقامة تحالفات إنتخابية مع باقي الأطياف.

كما خسرت أطياف يسارية أخرى، بعضاً من شعبيتها، بسبب إصرارها على وحدانية تمثيلها لليسار، ورفضها تنوع الأراء في ساحته، وتمسكها بما تسميه الثبات عند الإصول، سبيلاً لصيانة طهرانية ثوريتها، وإنتظاراً لنمو كمّي يحقق لها في لحظة تاريخية ما، التغيير المرتجى. ولهذا رفضت صياغة برامج تحالفية، حتى حين أدى ذلك الى هزائمٍ مؤقتة لليسار. وبالمقابل، واجه اليساريون الآخرون، الذين يتبنون فكراً حداثوياً، هذه الأطياف بقطيعة قاسية، معتبرين موقفها شكلاً من الإنعزالية، ومفضّلين التعاون مع يسار الوسط على التحالف معها، مما ألحق بهم أيضاً خسائراً غير قليلة.

ورغم إحتدام النقاش بين الجميع وغياب رؤية واضحة لعمل موّحد، وبعد فشل الأجنحة المتعددة في تحقيق إنتصارات ملموسة في النضال ضد سياسات الليبرالية الجديدة، فإن هناك دعوات جادة اليوم، لإقامة تحالفات سياسية وإنتخابية، تجمع بين الرؤى المتنوعة، وتحّل الحوار حول ما هو مطلوب، محل فكرة وجود يمين ويسار في الحركة، أو اتهام هذه الفكرة أو تلك بالفوضوية أو المارتوفية أو الجمود العقائدي، إضافة الى تأمين تعايش معّقد بين التقاليد المحافظة وبين متطلبات التجديد (وأفضل نجاح في ذلك حققه حزب أكيل القبرصي)، مشترطة رفض أي تهاون في النقد الصارم للنظام الرأسمالي وفي الكفاح ضده، وعلى أساس تحليل علمي يفضح تناقضاته المولّدة للأزمات، والتي تعّبد طريق نهايته، إضافة الى مواصلة الدفاع عن الضمانات الإجتماعية للناس، وعن تأمين أشكال متطورة من العدالة، وقيام دول حّرة ضامنة للسلام العالمي. ويريد أصحاب هذه الدعوات، أن يعرفوا مسبقاً، حدود المرونة مع الأخرين، كي لا تتعارض مع وجود سياسة طبقية مستقلة في الصراع ضد النيوليبرالية، رافضين بشكل جدي، أية تضحيات مجانية لصالح يسار الوسط والوسط، بحجة إعاقة وصول اليمين للسلطة.

أما في مجتمعات الدول التابعة، التي تفتقد طبقاتها وفئاتها الإجتماعية لمعالم محددة وتتداخل فيها الأنماط الإنتاجية، فإن هناك عللاً مشابهة لتلك التي تعاني منها بعض أطياف اليسار في المجتمعات المتقدمة، رغم وجود رؤى متقاربة حول الحاجة لتحالفات، تمثل قاعدتها الإجتماعية، العمال والفلاحين والطلبة والبرجوازية الوسطى والوطنية، أي كل الكتل الشعبية المتضررة من الهيمنة الأجنبية ومن التحالف البرجوازي البيروقراطي الطفيلي التابع لها.

وأخيراً، تؤكد أبرز الدروس التي أفرزتها تجارب هذه البلدان، على عدم منح الثقة لأي طرف يدّعي الديمقراطية، ما لم يتمثلها فكراً وسلوكاً، ويثبت بالتجربة العملية مصداقيته، إذ لا جدوى للعمل مع أي حليف لا يتوفر فيه هذا الشرط. كما يجب الإنتباه أيضاً الى ضرورة أن يتخلى كل طرف عن فكرة سحب الحليف ليتطابق معه،لأن ذلك غلبةً وليس حلفاً.

عرض مقالات: