اخر الاخبار

بعد أيام من انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من معتقل الخيام في جنوب لبنان يوم 23 أيّار 2000 زرت المعتقل مع وفد ضم ناشطين دوليين من جنسيات متنوعة، مناهضين لتوحش رأس المال المالي، وكان بينهم المفكر الراحل سمير امين.

وجاء الانسحاب بفعل الضربات الموجعة للمقاومة اللبنانية الباسلة، وفي قلبها بطلات وابطال الحزب الشيوعي اللبناني، والتي انهكت قوى المحتلين. وقادنا في الزيارة احد سجناء المعتقل السابقين، وقد دفعني فضولي الى دخول أحدى الزنزانات الانفرادية، لكن مكوثي فيها لم يدم سوى دقائق، بعد ان أوصدت الباب عليَ وعم ظلام دامس مخيف وشعرت ان الهواء قد بدأ ينفد فسارعت الى الخروج. وعندها تزاحمت الأسئلة في ذهني بحثا عن تفسير لقدرة المناضلين على تحمل قسوة الجلاد والصمود امام التعذيب، وعن شعور السجين المكافح في زنازين صممت لتحطيم إرادته واضعاف طاقته وتبديد حلمه.

حينما تتجول في أروقة المعتقل – المتحف - وتبصر أدوات التعذيب الرهيبة، تقفز الى ذهنك وحشية السجانين وقسوة الجلادين الهادفة الى كسر إرادة الانسان ومحاولة مسخه، وتداهمك الصور المروعة التي عكسها ادب السجون ومدونات المناضلين، ومنها كتاب “تحت اعواد المشانق” للمناضل الشيوعي التشيكي يوليوس فوتشيك، وما ابدعه الراحل عبد الرحمن منيف في “شرق المتوسط” و”الآن.. وهنا او شرق المتوسط مرة أخرى”، وبالخصوص الفصل المعنون “حرائق الحضور والغياب”، حيث تفاصيل اعتقال بطلها الحقيقي، رفيق الدرب وحبيب الروح والصديق الاعز حيدر شيخ علي، الذي اختار له المؤلف في الرواية اسم “طالع العريضي”. وقد عانى سبع سنين في سجن “افين” الإيراني الرهيب والمسمى في الرواية “سجن العبيد”، والذي ورثه نظام الجمهورية الإسلامية من النظام الشاهنشاهي، وأبقى عليه للتنكيل بالمعارضين وأصحاب الرأي. فيما أوكل ادارته الى بعض ضحاياه السابقين، ذوي النزعات السادية، الذين تفننوا في تعذيب ضحاياهم من اليساريين، زملائهم السابقين في السجن، الذين عاشوا معهم في  الزنازين الرهيبة ذاتها.

وقد التقيت بعد عودتي من بيروت آنذاك بحيدر شيخ علي، الذي عانى اكثر من سنة من محكوميته في زنزانة انفرادية، لم تكن أوسع من التي زرتها في معتقل الخيام. وفيها تعرض لتعذيب بالغ الوحشية، جعله يموت بطيئا، لكنه فاجأ الجلادين بصمود بطولي اذهلهم، وقوّى عزائم من كان معه من اليساريين الإيرانيين.

وفي لقائي معه باغتّه بسؤال عن قدرة الانسان رغم ضعفه على تحمل كل تلك الاهوال. فكان الجواب هائلا ايضا بقوته: “الامر في منتهى البساطة، حبي للحياة وكفاحي من اجل كرامة الإنسان هما قوة تقهر سوط الجلاد. الحياة التي أحبها ويسحرني جمالها اولا، وشرف الكلمة ثانيا، هما سر صمودي، والجلاد مهما أرعد وأزبد وعذّب، أضعف من المناضل المتشبث بالحياة”.

وأعاد هذا الى ذهني ما علق به عن سر صمود طالع العريضي في الرواية: “أنت الآن في مواجهة التحدي الكبير، إما أن تصمد أو تسقط،  فيشمخ في داخلي نداء عات، صوت كأنه الطوفان: الإنسان لحظة قوة، وقفة عز، فأحذر”

داهمني هذا وقد مرت عليه سنوات، وانا اتابع صراع حيدر اليوم مع مرض استعصى بخبثه على الأطباء، فالخلايا الخبيثة تشن كل يوم هجوما جديدا وتقضم من احشاء جسده المنهك، ولا تبقي شيئا لمبضع الطبيب. لذا أوقف الاطباء العلاجات، بعد ان لم يعد جسده يستجيب لها، وأبقوا على المهدئات فقط، التي تخفف من أوجاعه المبرحة.

ها انا اليوم استذكر عنفوان تحديه، واشاهد تسجيلات فيديو قصيرة سجلتها له ذات يوم، وهو يتحدث عن عذابه وصموده في السجن، مستمدا منه الامل في صموده مجددا، وهو القائل على لسان طالع العريضي في الرواية المذكورة: “كان العناد الرفيق الذي لم يتخلّ عني لحظة واحدة، كان يسندني بقوة، كان يصرخ: “احتمل سوف يتعبون”.

والان أقول لك يا رفيقي وِخِلّي: تحمّل، فالمرض الخبيث الى هزال وكلل، وسيستسلم لأرادتك التي قهرت اعتى الجلادين وافظعهم، وستنهض انت نشيطا معافى..

عرض مقالات: