قبل كل دورة انتخابية يحتدم الجدل بشان قانون الانتخابات، سواء لمجالس المحافظات ام لمجلس النواب. فنحن امام وضع قل مثيله على هذا الصعيد.
صحيح ان القوانين تُعدل او تُبدل ويأتي غيرها، وفقا للتطورات ولملاقاة ما هو جديد في الحياة وما تفرضه الحاجة، لكن هناك استقرارا نسبيا يفترض وجوده، وان تخضع التجربة الى تقييم واسع موضوعي، وفي ضوئه يتم الحديث عما اذا كانت هناك ضرورة للتعديل من عدمه.
ولعل قانون الانتخابات عندنا هو اكثر القوانين التي تعرضت بعد ٢٠٠٥ الى التغيير الكامل او الجزئي، ونكاد نكون في بلدنا قد أكثرنا من هذا التغيير. والمفترض الآن، إن توفرت النية الصادقة لتأمين استقرار الأوضاع في البلد، ان يتم استخلاص الدروس من العمليات الانتخابية السابقة، وان توضع معايير تقويمية وليس اجتهادات ومواقف مزاجية متسرعة، تفرضها المصالح وروح الهيمنة والاستئثار والاقصاء.
وفي هذا الشأن نشير الى من الخطأ الجسيم تكرار تجارب ثبت فشلها وعقمها، كذلك الاستنساخ الحرفي والنقل الميكانيكي لتجارب بلدان معينة، تختلف في تركيبتها ومستوى تطورها السياسي والثقافي، وفي مدى رسوخ التجربة فيها، والبناء السليم العلمي للأحزاب والكتل السياسية، الذي عماده أساساً هو البرامج والتوجهات وليس العناوين الفرعية الانكفائية والمناطقية والطائفية، وما يؤدي اليه ذلك من تقوقع ضيق.
فالمطلوب باستمرار ان تكون هناك روافع لبناء هيئات ومجالس، تعكس إرادة المواطنين الحقة على اختلاف انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية، وان يمتد ذلك الى المنحدرات الفكرية والسياسية. وان اي مسعى يراد منه توفير قدر من الاستقرار والتمثيل الصحيح لارادة المواطنين، لا بد ان يراعي ذلك.
ولا يتأتى تحقيق هذا الا بتوفير شروط ومستلزمات المشاركة الواسعة في الانتخابات من طرف المواطنين في كل المحافظات والمناطق، في المدن والارياف، وان لا تتكرر تجربة الانتخابات السابقة التي كانت نسبة من شاركوا فيها ممن يحق لهم الانتخاب متواضعة جدا، خاصة في ظروف بلدنا الذي يحتدم فيه الصراع والتنافس المنحصر لاسباب مختلفة بجماعات معينة، تحتكر أساسا السلطة والمال والاعلام، وبعضها السلاح.
ولا شك ان من أسباب ذلك ما اعتُمد من آليات انتخابية، وعدم التطبيق الفاعل للقوانين ذات العلاقة ومنها قانون الأحزاب السياسية، خاصة مواده التي تحرّم وتجرّم امتلاك السلاح من جانب الأحزاب والكتل السياسية.
وإذْ يطرح اليوم من جديد قانون الانتخابات، وقد ابتُدع هذه المرة شيء جديد في مسودته، بدمج قانوني انتخابات مجالس المحافظات ومجلس النواب في قانون واحد، فان الموضوع يستحق ان لا تنفرد الأحزاب والكتل المتنفذة الآن بكنابته وتفصيل مواده على مقاساتها، قدر ما يتوجب ان يخضع هذا الى نقاش واسع وتقييم موضوعي للتجربة السابقة، وهي ليست واسعة، بما لها وما عليها، وان يكون هناك حرص على استقرار البلد وتنمية تجربته وتعزيز عناصر البناء الديمقراطي فيه، وان تحكم الجدل والنقاش بهذا الخصوص معايير بناء هيئات فاعلة قوية تمثل المواطنين تمثيلا حقيقيا، ويتمتع أعضاؤها بالنزاهة والاستقامة وبقدر معقول من القدرة والكفاءة، وان يتم تجاوز الفرعيات الضيقة، الحزبية والعشائرية والاثنية والمناطقية والطائفية، والانطلاق الى فضاء الوطن والمواطنة. كذلك ان تُرسم الآليات بما يجعل المشاركة واسعة وتشمل مختلف الاطياف، وان تكون المنافسة أساسا للتباري في تقديم ما هو افضل للمواطن، الذي يئن تحت وطاة أزمات متعددة. وفي نهاية المطاف ان يكون قانون الانتخابات رافعة للبناء والاعمار ولبناء تجربة ديمقراطية راسخة، أساسها الانسان وكرامته وحريته وحقه المشروع في الحياة والعيش الكريم والرغيد.
هكذا، كما نرى، هي المعايير التي تحكم بناء القانون الانتخابي الجديد المطلوب، وهي قطعا لا تتوفر في القانون النافذ حاليا، ولا في المشروع المعروض الآن امام مجلس النواب.