في مشهد يتكرر كل عام، تُفتح أبواب قروض الإسكان ليوم واحد، ثم تغلق وكأنها لم تُفتح قط، تاركة وراءها آلاف المواطنين في طوابير يائسة، يتزاحمون على وهمٍ صنعته الدولة بعناية. يومٌ واحد فقط، تُسجَّل فيه آلاف الطلبات، لكن من سيحصل على التمويل؟ هذا هو اللغز الذي لم تُفصح عنه الجهات المعنية.
كيف يمكن لعاقل أن يصدق أن سياسة الإسكان في بلد يعاني أزمة سكن خانقة تُدار بهذه السخرية؟ هل أصبح امتلاك منزل حلما مستحيلًا إلى درجة أن الحكومة تقدم حلاً وهميًا لا يصلح حتى للاستهلاك الإعلامي؟ لا يمكن تفسير هذا المشهد إلا بأنه شكل من أشكال العبث السياسي والاقتصادي، حيث يُدفع المواطن دفعًا إلى تصديق كذبة التمويل العقاري، رغم أن الواقع يؤكد أن هذه القروض إما محصورة بفئات معينة، أو أنها مجرد عملية شكلية لا تثمر عن شيء.
لماذا لا تكون هناك سياسة إسكانية واضحة، تمتد طوال العام، وتستند إلى معايير شفافة تضمن العدالة في توزيع القروض؟ لماذا يتحول الحصول على قرض، وهو أبسط حقوق المواطن، إلى سباق محموم وكأنه مكرمة من الدولة؟ الحقيقة أن هذا النمط من الإدارة لا يعبر إلا عن فشل ذريع في التخطيط، وغياب تام للرؤية الاستراتيجية لحل أزمة السكن.
المواطن اليوم ليس أمامه سوى خيارين: إما أن يلهث خلف هذه القروض وكأنه يتسول حقه، أو أن ييأس ويقتنع أن السكن بات رفاهية لا يمكنه تحمل تكلفتها. وبين هذا وذاك، يستمر الفساد والمحسوبية في تحديد من يستحق ومن لا يستحق، وكأن الدولة لم تخلق إلا لتزيد من تعقيد حياة الناس بدلا من تسهيلها.
لو نظرنا إلى دول أخرى تعاني أزمات اقتصادية، مثل مصر أو تركيا، لوجدنا أن سياسات الإسكان تتبع نهجًا أكثر واقعية. ففي مصر، على سبيل المثال، توفر الحكومة برامج تمويل عقاري مدعومة تمتد على مدار العام، وتستهدف مختلف فئات المجتمع بأسعار فائدة منخفضة، بحيث يتمكن المواطن البسيط من امتلاك منزل دون أن يكون عليه انتظار "يوم الفرصة الوحيدة". أما في تركيا، فقد تم تطوير نظام قروض الإسكان المدعومة، حيث تُتاح للمواطنين إمكانية تقسيط السكن على مدى عقود، وبفوائد منخفضة، دون الحاجة إلى خوض سباق محموم للحصول على تمويل قد لا يتحقق أبدًا.
أما في العراق، فإن القروض لا تُفتح إلا ليوم واحد، وكأن المسؤولين يمارسون مزحة ثقيلة على الشعب. هل يعقل أن يضطر المواطن إلى انتظار عامٍ كامل، ثم يخوض منافسة غير عادلة، وكأنه يتصارع على كوب ماء في صحراء جافة؟ أين هي العدالة الاجتماعية؟ وأين هي الخطط الحكومية التي يُفترض أن توفر حلولًا مستدامة بدلًا من هذا العبث؟
إن أزمة الإسكان في العراق ليست أزمة موارد، بل أزمة إرادة وإدارة. ولو كانت هناك نية صادقة لحلها، لكانت القروض متاحة بعدالة، والسياسات واضحة وشفافة، بدلًا من هذه المهزلة السنوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.