احتفل العراقيون قبل يومين بالذكرى 104 للثورة الوطنية الكبرى، التي افتتحت التاريخ السياسي المعاصر للبلاد، وعكست مشاركة العراقيين بكل انتماءاتهم في كفاح لا يلين ضد جميع أشكال الإحتلالات، ذلك الكفاح الذي لم يمض سوى أقل من عقد على انطلاقته حتى تبلور له مضمون اجتماعي واضح، جراء نمو شعور وطني رافض لثنائية الحكم بين المستعمر الإنكليزي وحليفه المحلي من أيتام العثمانيين، وتطور الحاجة إلى هوية وطنية تصون وحدة المجتمع المتنوع قومياً ودينياً ومذهبياً، وبدء نشوء الطبقتين العاملة والوسطى، وتغير آلية الصراع في الريف بعد قيام المستعمر بتوزيع الأراضي الأميرية على رؤوساء العشائر الثائرة، لجذبهم إلى صفه.
ويجمع المؤرخون المنصفون على أن العراقيين، الذين طالما كرهوا القيصرية جراء ما خسروه من ضحايا في حروبها مع تركيا العثمانية، قد تأثروا بثورة أكتوبر، وتناغم العديد منهم مع أهدافها التحررية والإنسانية المناهضة للإستغلال والحروب. وقد أحدث ذلك كله نمواً في الوعي السياسي لدى الشباب المتعلم، فأثمر عن تنمية الوعي الاجتماعي والتبني التدريجي للعلاقة الجدلية بين الحرية السياسية والقضاء على الظلم.
وكان من بين أبرز هؤلاء الشباب، يوسف سلمان يوسف، المتحمس للنضال الوطني، الذي راح يتنقل بين البصرة والناصرية، ويجمع أخبار وتحركات وأسرار المستعمرين في المنطقة من معارفه، ويوصلها إلى الحاج رويضي آل بشارة، رئيس عشائر (الحميرة)، ويتعاون مع باقي الشباب في المدينتين لدعم الثورة بما كان متاحاً لهم وخاصة جحافل الثوار التي تجمعت بقيادة السيد محمد سعيد الحبوبي وبمشاركة عشائر الفرات الأوسط وقوة كردية من الخيالة يقودها الشيخ محمود الحفيد، ويترجم ما تنشره الصحف البريطانية عن القضية ويزود الثوار بها. وقد أهلته مساهمته النشطة تلك لأن يُدعى شخصياً لحضور مؤتمر كربلاء الذي انعقد غداة الثورة بهدف دراسة أحوال البلاد ومستقبلها، والذي كانت من أبرز مقرراته النضال لإجلاء البريطانيين وإلغاء الانتداب. كما ساهمت الثورة في نمو حب الوطن لديه، وهو ما عبر عنه في دفاعه أمام المحكمة في 18/1/ 1947 بقوله (لقد انغمرت في النضال الوطني قبل أن أكون شيوعياً، وبعد أن صرت شيوعياً، صرت أشعر بمسؤولية أكبر إزاء وطني).
ولم يقتصر تأثير الثورة على فهد فقط، بل شمل عشرات الشباب الثوري، الذين انتقلوا بُعيد الثورة إلى العمل المشترك لبناء تنظيم يساري، ممهدين لذلك بتأسيس جمعية الأحرار وجماعة الرحال ونادي التضامن وجماعة الأهالي والوفاء للعهد، إضافة إلى عشرات الحلقات الماركسية التي اندمجت في الحزب الشيوعي العراقي، العام 1934، وجعلت حرية العراق مطلبه الأهم والأول طيلة تاريخه.
لقد نهل أولئك الفتية البواسل، وفي طليعتهم فهد، الوطنية من ثورة العشرين، ومنحوها مفهوماً اجتماعياً وطبقياً، بإعتبارها قاعدة ارتكاز للنضال الطبقي، مدركين أن لا خلاص من الإستغلال بدون وطن مستقل وحر. وكانت أولى دلائل ذلك، اللوحة التي تصدرت جريدة الحزب الأولى “كفاح الشعب”، حيث ربطت بين مهمة طرد المستعمرين ومصادرة كل أملاكهم وبين ضمان حرية الشعب وتركيز السلطة بأيدي العمال والفلاحين، فيما كانت ثانية الدلائل تحول الحزب لخيمة تظلل جميع العراقيين، عندما ضمت خلاياه ولا تزال رفيقاً عربياً وآخر كردياً وثالثا تركمانيا ورابعا كلدانيا وخامسا مندائيا وهكذا، وحين تعلموا وعلموا كيف يتطهر المرء من أردان الشوفينية التي تستعبد الآخرين، مهما تسترت بشعارات وطنية، وأن يعبّروا بصدق عن التناغم بين وطنيتهم وأمميتهم (أحب شعبك ووطنك وكن في مقدمة المناضلين من أجل حريتهما وعزهما) و (كن أممياً، ودافع عن مبدأ الاّخوة بين مختلف الشعوب والأجناس).
تحية إجلال لثورة العشرين، ولتلامذتها، بناة اليسار العراقي ورواده.