اخر الاخبار

في ظل اشتداد الاستغلال الطبقي على الصعيدين المحلي والدولي، والقلق الكبير من خراب البيئة ومن تصاعد النزعات العدوانية للرأسمالية، إلى الحد الذي باتت تهدد فيه بفناء البشرية، يترك عدم تبوء اليسار لمكانه القيادي المرتجى، فراغاً سياسياً مؤلماً، ربما بات مُحبطاً للبعض، في ظل صعود اليمين المتطرف، وعدم وصول الإحتجاجات الشبابية والعمالية لأهداف ملموسة، رغم تطورها بنسبة 282 بالمائة في العقد الماضي.

وإذ تتفق أطياف اليسار في العالم على مسؤولية حكومات الليبراليين ويسار الوسط عن النتائج الكارثية للأزمة العالمية، تمارس بعضها نقداً ذاتياً، من أجل الكشف عن أسباب عجزها عن تعبئة الناخبين من الشغيلة والطبقة المتوسطة، خاصة بعد أن تخلو عن تلك الحكومات، ورفضوا دفع تكاليف برامجها لتخفيف الأزمة، كحزم التقشف والغلاء وتراجع الخدمات وانخفاض الأجور، وأطلقوا حراكات جماهيرية واسعة. كما يسعى النقد للتعرف على الدور الذي لعبه ذاك العجز في تسرب الناخبين إلى اليمين واليمين المتطرف، عند نكوص الحراكات، فالسياسة كما هو معروف، كالطبيعة لا تقبل الفراغ!

ورغم اتفاق هذه الآراء حول مسؤولية المنتفضين أنفسهم (كمناهضي العولمة والستر الصفراء في فرنسا ونشطاء الجامعات الأمريكية وإسبانيا والشرق الأوسط) عن فشل حراكاتهم، لعدم امتلاكهم خطط اليوم التالي للانتفاضة، وتركيز جلّ اهتمامهم على تنظيم التظاهرات ومواجهة القمع السلطوي والسعي لنشر دوافع احتجاجاتهم دون أن يقنعوا الناس بخططهم البديلة، فإن تردد النقابات واليسار في التدخل لمعالجة هذه النواقص، قد ضاعف من آثارها السلبية، وأدى لإنزلاق بعض هذه الحراكات إلى الشعبوية الرافضة للتنظيم والمقللة من أهمية البرمجة والمحّبذة لاستبدال النضال الدؤوب بالمناورات وبأغتنام الفرص وبتبّني شعار كل شيء أو لا شيء، وهو الشعار الذي يؤدي غالباً إلى لا شيء.

كما يستند هذا النقد الذاتي لحقائق تاريخية، تؤكد على أن اليسار كان مميزاً في التفاعل مع الاحتجاجات الجماهيرية وقيادتها، في ظروف وأزمنة وأمكنة مختلفة، ولهذا كان عليه ان يجد حلاً حين تحول الإتجاه الشعبي والتنظيم الأفقي وغياب القيادة، من مساهم فعال في زج الملايين بالساحات إلى عائق أمام مواصلة التغيير.

ويتطرق النقد ايضاً إلى الثغرة التي لم يردمها اليسار، وأدت إلى نجاح اليمين في خلق حركات مماثلة للحراكات الشعبية في الشكل، ومضادة لها في المضمون والهدف، وتسخيره لها من أجل تشديد هيمنة الطغاة أو لإدارة الحروب الأهلية والنزاعات العرقية والدينية لصالحه. ففي البرازيل أسس الرئيس الفاشي بولسونارو حركة الحرية في مواجهة حركة التذاكر المجانية، ونجح حينها في استغلال احتجاجات السخط على أسعار التذاكر في التآمر لإسقاط حكومة العمال. وفي مصر أسس الإسلام السياسي عشرات التجمعات التي استغلت المساجد والمعتقدات لتحقيق هيمنته وسرقة الثورة الشعبية. وفي أوكرانيا تمّكن النازيون من استغلال مشجّعي كرة القدم المتطرفين (الالتراس) لإجهاض إنتفاضة اليسار.

وإذا ما استبعدنا بعض الأصوات المقرفة، التي تقبض مقابل ما تدعيه من “حرص يساري”، فإن البحث عن سبل عودة اليسار إلى قيادة الانتفاضات يبقى غاية هذه الحوارات، تلك السبل التي قد تكمن في تطوير الأشكال التنظيمية ورافعات العمل بين الناس المحتشدين اليوم في مواقع غير تقليدية، وفي فهم الحركات الإحتجاجية، تشكيلاتها غير المعلنة، طبيعة المساهمين فيها، دور الأفراد، ما بقي سليماً من الشعارات والرموز وما فقد منها بريقه، وما يمكن أن يُّقدم للحراكات واليسار الشعبوي من دعم رفاقي، يقرب المسافات ويعقلن الخطط ويضخ بالمزيد من الجهد في المسار المشترك. ويبدو أن قيام الجبهة الشعبية الموحدة في فرنسا خطوة أولى على هذا الطريق.

عرض مقالات: