يلاحظ في الفترة الأخيرة اتخاذ إجراءات من شانها تقليص الهامش الديمقراطي، وتقزيم الحريات، وتضييق مساحة المشاركة في اتخاذ القرار، وفرض الامر الواقع على طريقة “ تريد ارنب اخذ ارنب .. تريد غزال اخذ ارنب “، والامعان في تشظية النسيج الوطني العراقي. وامتد الامر الى مساع لفرض نمطية واحدة على الجميع بعكس الدستور، الذي تؤشر مواده بوضوح التعددية القومية والدينية والمذهبية في المجتمع، فيما يجري فرض قوانين تخل وتتقاطع مع فقرات من المادة الدستورية الثانية.
هذا المنحى الشديد الوضوح الآن بشان خطوات ممنهجة للانفراد بالسلطة بوسائل متعددة، من فرض القوانين مرورا بالتعليمات والتوجيهات الى احتكار المناصب، ليس الأساسية منها وحسب بل وحتى الوظائف العادية في مؤسسات الدولة، سيقود مهما قيل واعلن الى تشديد قبضة نمط حكم اقلية، يحصر بيده كل السلطات ويهيمن على المال والسلاح والاعلام، ويحتكر القرار السياسي والاقتصادي والأمني .
وعندما يذهب الحديث الى التعددية بمعناها الاشمل، ويمتد الى التعددية الفكرية والسياسية، فالامور تبدو “ أقمش “، ويبرز بجلاء التهميش والاقصاء. ومن وسائل تحقيق ذلك اعتماد منظومة انتخابية تفرض موازين قوى على الأرض، تقلص باستمرار مساحات التعددية والمشاركة الفعلية في إدارة شؤون البلد. والحال ان المتضرر الأكبر هو القوى المدنية والديمقراطية، والحياة المدنية في العراق بكل تجلياتها، والمزيد من العقبات الجدية في طريق بناء نظام ديمقراطي حقيقي .
وواضح اننا امام فهم قاصر وغريب للديمقراطية، التي يحرص المتنفذون على ان تكون باتجاه واحد، بما يعزز الهيمنة والنفوذ والاحتكار. والنتيجة هي دولة اللادولة، وغياب المؤسسات، وتماهي السلطات، بل ووصولها حالة من التخادم المتبادل. ومن شأن ذلك أيضا بروز عدم القدرة على انفاذ القانون، وعدم شموله الجميع، وحتى إن نُفذ يكون أعرجا، تغلب عليه الاستثناءات .. وما اكثرها في وقتنا الراهن.
تساعد في ذلك اليوم هذه الوفرة المالية النسبية جراء ارتفاع أسعار النفط عالميا، والاعتماد عليها في مباشرة مشاريع خدمية لا تخلو من اهداف سياسية وانتخابية ودعائية. ولا شك ان كل هذا يجري مع استمرار سياسة التوظيف الزبائني، وعدم تنمية القطاعات الاقتصادية الإنتاجية، وانه سيشدد الطابع الريعي للدولة ويعمق مركزيتها، ويسهم في اضعاف المجتمع المدني.
وهذه الإشارات ليست بنت اليوم، انما عناصرها تراكمت على مدى سنوات سابقة، فيما هي ايضا ليست بمعزل عن تركة النظام الدكتاتوري المقبور، ولا عن الحصار الجائر الذي فرض على شعبنا، وعن الحرب والاحتلال واهتزاز منظومة القيم الأخلاقية والتدخلات الخارجية الفجة في شؤون وطننا، والتي تتواصل بكل السبل وعلى قدم وساق. فيما يضاعف المتنفذون سلبياتها وتداعياتها، بدل السير بخطوات عملية للخلاص منها. فهم وجدوا فيها ضالتهم للسيطرة والتحكم، واستمرأوا نهج المحاصصة والتخادم المكوناتي، الذي اهتز قليلا أخيرا، وقد يكون ذلك مؤقتا، بفعل تغيرات سياسية وتزايد نزعات الاحتكار. ولا بأس في التغطية على كل ما يجري باسم الدين والمذهب والمكون، دون ان يعني ذلك استعدادا للتخلي عن هذا النهج الذي ثبت فشله، فهو بقرة حلوب للمتنفذين، المتشبثين بالسلطة.
قد يقول البعض ان ما ذكر أعلاه يتنافى ويتقاطع مع التعددية في مجلس النواب وفي تركيبة الحكومة، وربما في مجالات أخرى. نعم هذا صحيح من حيث الشكل، ومعه يبرز السؤال الاتي : من يمتلك القرار الفعلي ومن القادر على اتخاذه وتطبيقه ؟ واذا كانت تراعى سابقا بعض الجوانب الشكلية في التوافق والمشاركة، او التظاهر بهما، فقد جرى تجاوزها ذلك في حالات عدة، وعلى المكشوف .
وهنا يتوجب التحذير المبكر من أن تضييق مساحة الديمقراطية، وفرض نزعة الاحتكار والهيمنة والامر الواقع، سيكون ضررهما واسعا وكبيرا على الوطن والمجتمع، وعلى مختلف أطياف الشعب ومكوناته. انه بحق نذير شؤم للجميع.
وأخيرا يتوجب القول ان هذا ليس من القضاء والقدر في شيء، ولا من طبيعة الاحوال، وانما هو فعل فاعل، تحفزه المصالح الضيقة والانانية. لذا يتوجب تحشيد كل الطاقات والإمكانات، لدحر هذا النهج الخطر والمدمر وإلحاق الهزيمة به، قبل ان يتمكن ويطغي.