.. ولعل من أكثر ما يمنح الحزب الشيوعي فتّوة في عيده التسعين، ويجعله العراقي الذي لا يشيخ، قدرته على مواصلة مشروع التجديد الذي ابتدأه في مؤتمره الخامس، واستمر بتنفيذه، وإن بوتائر متباينة في السرعة والسعة، خلال مؤتمراته الستة اللاحقة.

فقد توفرت لدى الشيوعيين القناعة بأن اتساق النص مع الممارسة يجب أن يقترن بإقامة حوار نقدي مع ماركس نفسه ومع تلامذته من بعده، وبإنهاء الركود اليقيني وإطلاق حرية الاجتهاد، وتفكيك التعارض الوهمي، الذي إختُلق في فترات عبادة الفرد، بين الديمقراطية الحزبية وبين وحدة الإرادة والعمل، دون أن يغفلوا الحذر الشديد من شعارات يتم تبنيها تحت ضغط الشعور بالهزيمة وجلد الذات ومحاكمة النصوص على ضوء ما أفرزه انهيار التجربة الاشتراكية الأولى.

ولإدراكهم بأن التجديد في الأحزاب الشيوعية، يرتبط ببنية هذه الأحزاب وبتاريخها وبالمستوى الفكري العام لاعضائها وقادتها ومدى شعبية هؤلاء بين المنتسبين وبين الجماهير، ولمعرفتهم بالحاجة الماسة للتمييز بين تجديد يضيف ألقاً أكبر على ثورية الشيوعيين و «تجديد» يوقعهم في براثن الفكر الإصلاحي، تبنى الشيوعيون طريق التجديد عبر قراءة علمية للواقع بعيدة عن الإرادوية، وعمدوا إلى حماية مشروعهم من التلكؤ والشعاراتية التي تغشي الأبصار وتنشر الوهم، فتضعف النفوذ الجماهيري وتضّر بالقدرات النضالية، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير.

ولأن تعلم السباحة يشترط النزول للماء، كما يقال، نزل الشيوعيون بمشروعهم إلى ساحة الفعل الثوري، ليتمكنوا من تدقيقه، تعميقه أو تعديله أو ربما لتبني بديل أكثر حداثة منه. ورغم أن هذه العملية لازالت متفاعلة، حتى وإن حدث تراجع هنا أو تلكؤ هناك، فإن الخطوة الأولى فيها تمثلت في السعي لتحقيق التجديد التنظيمي بأربعة مسارات مترابطة، أولها بناء قاعدة حزبية فاعلة، سخية في العطاء النوعي، حرّة وشجاعة، ليس في مواجهة العدو الطبقي والصعاب فحسب، بل وفي الحرص على مستقبل ومصير حزبٍ انتمت اليه بحرية وقناعة، وثانيها إعداد كادر قيادي متمرس على إدارة التواصل بين أركان هذا البناء، كفوء، ميداني يتعلم من الجماهير ويعلمها، ذي رؤية مستقبلية دون أن يدعي إحتكار الحقيقة، وثالثها العمل على جعل المباديء التنظيمية متسقة مع المستوى الثقافي للناس، ومع قدرة الحزب على تربية منتسبيه عليها، ورابعها تعزيز الأخلاق الشيوعية كالتضامن الرفاقي والإيمان بالعدل والتواضع والجرأة والصدق والإيثار والوطنية الصادقة والأممية الحقة.

كما خضعت في سياق التجديد، استراتيجة الحزب وتكتيكاته، لنقاشات واسعة، لم تقتصر على الشيوعيين فقط بل شملت كل المعنيين بمستقبل افضل للبلاد، وأقرت بأساليب ديمقراطية متميزة. ولعل آخر مثال على ذلك «وثيقة التغيير الشامل» التي اقرها المؤتمر الحادي عشر، على ضوء دراسة عميقة للأزمة العامة التي وقع بها وطننا، جراء فشل منظومة المحاصصة في حل المشاكل المعقدة والمتمثلة بتبديد ثروة العراق في أضخم عمليات فساد، وتغييب معايير المواطنة والعدالة والنزاهة، وتهديد وحدة الوطن وتخريب الاقتصاد الوطني وحرمان المواطنين من الخدمات الأساسية، وعدم المحافظة على سيادة العراق واستقلاله وتغييب إرادته الحرة. كما رسمت الورقة بنفسها سبل تحقيقها، عبر تغيير موازين القوى مع الأوليغارشية الحاكمة، التي لن تتخلى عن مصالحها بالنصيحة والموعظة الحسنة، بل عبر حشد طيف واسع من القوى السياسية والمجتمعية، يقود حراكاً سلمياً ديمقراطياً، يُجبر فيه المتنفذون على الخضوع لإرادة الشعب في التغيير.

ولهذا كله، بقيّ الحزب فتياَ في التسعين، وراح نضاله يتجدد كل يوم، وكما هفت له قلوب الكادحين فيما مضى، ترى فيه جموعهم اليوم الشمس التي تنير المدى. تباركتَ حزبي في عيدك، ولتبقَ مشرقاً في عقولنا والأفئدة، فرحاً ومعّلما، ولتبق لعراقنا ربيعاً لا يشيخ.

عرض مقالات: