تقول التجربة التاريخية لكفاح الشعوب من اجل تقرير مصيرها، ان لا قوة مهما بلغ جبروتها تستطيع كسر ارادة شعب يتوق للتحرر من نير الاستبداد والتسلط والحرمان. والشعب الفلسطيني الحر يمنحنا اليوم درسا هائلا في مقاومة الاحتلال والظلم والاستعباد، حيث يتصدى لأبشع واكبر مجزرة تنفذ لإبادته بتوحش رهيب، عنوانها حرب الابادة الجماعية (الابارتيد)، امام انظار دول الغرب (المتحضر)، التي اشاعت وهم احترامها لحقوق الانسان.

يتصدى الشعب الفلسطيني وحيدا لماكنة الموت البشعة، مكافحا صادقا في سبيل الحرية وحق الانسان في الحياة والكرامة، ويدفع من اجل ذلك ثمنا باهظا، مضحيا بالأرواح والممتلكات، ومقدما لشعوب العالم درسا بليغا لقيم الكرامة الإنسانية.

صمود الشعب الفلسطيني في غزة أذهل العالم، ووضع المحتلين في ازمة لا مخرج منها، ستنتج عنها تداعيات على مجمل الأوضاع في إسرائيل. صمودٌ اربك قيادة اركان جيش الاحتلال، بحيث تراجعت امس عن قرارها بتسريح جيش الاحتياط الذي أصدرته قبل أسبوع، وإعادت الى اتون حربها من سرحتهم قبل أسبوع، ولم تمهلهم لإتمام رقصة (سلامة بقائهم على قيد الحياة)،  اثر سحبهم من غزة. يبدو انها لا تستطيع الاستغناء عنهم، فخسائر الجيش تتزايد فادحة، دون تحقيق شيء من أهداف الحرب المعلنة.

ونحن نتابع صفحات صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، ونشهد كل يوم الانكسارات العسكرية للمحتلين. لكن تصعب الإحاطة بانكسارات اسرائيل على الجبهة السياسية، حيث تفاقم ازمة حكومة اليمين، وقد ركز برنامج تحالف اليمين المتطرف الحاكم على عدم  بحث إقامة دولة فلسطينية، فيما أصبحت اليوم مقولة (لا امن لإسرائيل ولا امان دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس) مدوية بمعنى الكلمة. وهذا يحتم على حكومة الاحتلال اتخاذ جملة إجراءات، منها وقف العدوان وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، وإعادة السلطة الفلسطينية، وتأكيد الوحدة السياسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة في سياق رؤية مستقبلية لإقامة الدولة فلسطينية، وعدم اعاقة دخول المساعدات، وتهيئة مشاريع إعمار غزة وتعويضها عن خسائر العدوان والوحشي. لكن هذا ما لا تقبله حكومة تحالف اليمين المتطرف، واضعة نفسها في مأزق، واول من يتحسس مخاطر ذلك على مستقبله السياسي هو رئيس الحكومة نتنياهو، المهدد أصلا بعدد من فضائح الفساد، حيث سيتحمل مرارة مسؤولية الفشل الأمني والسياسي.

امام خسائر العدوان على غزة، وفشله في تحقيق ادنى الأهداف، وانعكاس الازمة على الوضع الاقتصادي الاجتماعي في إسرائيل، وفقدان الإسرائيليين الشعور بالأمان، مقابل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، وبسالة مقاومته المذهلة، وتصاعد حركة استنكار التوحش الإسرائيلي، وسعة التضامن الشعبي العالمي مع الشعب الفلسطيني، إضافة الى قضية الإبادة الجماعية المطروحة امام محكمة العدل الدولية، وأمور أخرى، كل هذا جعل الخلافات بين القيادات الإسرائيلية تتصاعد، خاصة بين الأقطاب (نتنياهو وغالانت وهاليفي وبيني غانتس)، حيث لا تتقبل عقولهم المأزومة غير استمرار الحرب. كما لا يجرأ أي من هؤلاء المتطرفين على الاعتراف بصعوبة تحقيق أهداف الحرب التي اعلنوها.

 مقابل ذلك تتبلور في دولة الكيان حركة اجتماعية نواتها اليسار ودعاة السلام، تطالب بوقف الحرب واللجوء الى خيار التفاوض وبناء السلام، وتشاركهم موضوعيا عائلات المحتجزين الإسرائيليين، حيث نظموا اعتصاما مفتوحا امام مقر نتنياهو، مطالبين بإنهاء الحرب واللجوء الى الحلول السلمية، التي تضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على أرضها وعاصمتها القدس.

عرض مقالات: