كان لقائي الأول بعوالمه قبل أربعة وخمسين عاماً، حين وافق البعثيون على الإحتفاء بمئويته، في تسامح غريب عن ثقافتهم، تماماً كغربة القميص اليساري الذي حاولوا ارتداءه. حدقت في عينيه ملياً، كانتا طافحتين بحنان وطيبة. كفاه الشبيهتان براحتّي جدي، مسحتا على رأسي، فاطمأن قلبي وتبدد القلق الذي أثقل كاهلي، مذ قدمتُ بغداد من أعماق الريف وحاولت أن اتصالح مع عالمها المضطرب. وكبرت وعاش لينين معي، فناراً حين أُبحر في العتمة، ورمزاً للشيوعية، يعزز اليقين، بأن الثورة آتية لا ريب فيها. 

ورغم الخلاف والإختلاف حوله وحول تكتيكاته واستراتيجياته، ورغم خلاصه من عصمة اُلصقت به قسراً، فإنه بقّي لدى كل أطياف اليسار، أفضل المفكرين الإستراتيجيين وأعظم الثوريين، حتى بعد إن انهارت التجربة الاشتراكية الأولى، التي أرسى أسسها، دون أن يمهله الموت لإدارتها.

وجاء هذا التقييم لما عُرف به الرجل من مقدرة هائلة على قراءة الواقع والتجاوب مع ما يفرزه من معطيات. وترينا سيرته أمثلة لا تحصى على ذلك، كتبنيه مهمة انجاز الثورتين معاً بقيادة البروليتاريا وحلفائها، وقيامه بالكشف عن التناغم بين الأممية المتمثلة بوحدة بروليتاريا العالم، وبين الوطنية المرتكزة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وصراعه من أجل السلام، دفاعاً عن حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقه في الحياة والخبز والحرية، واصراره على تنقية الحزب من الأخطاء والخطايا ومن أساليب عمل جامدة ومن الروتين الممل، ودعوته للتّكيف مع مختلف أساليب الكفاح، ومقاومته لليأس عند المحن، وما يفرزه من تياسر طفولي وشيخوخة تصفوية يمينية.

وكما كشف لينين عن مقدرة فذة في الجمع بين النظرية والتطبيق، بين تفسير العالم وتغيّيره، بين حماسة الشباب ضد الظلم وعقلانية الثوري الصبور، بين الشّدة في الكفاح والتواضع في الرفقة، بين الحزم في المباديء والمرونة في الكتكيك، فإنه عُرف شجاعاً في الإعتراف بأخطائه واجراء مراجعات فكرية وسياسية في المكان والزمان المناسبين، وهو ما تمثل جلياً في تصحيح خطط اكتوبر الاقتصادية وتبنى سياسة النيب المعروفة، وفي الاعتراف بأن الانتقال إلى الاشتراكية عملية تاريخية طويلة ومعقدة، وفي نضاله ضد الانحطاط البيروقراطي الذي بدأ يتشكل بُعيد النصر. 

وكان التقاط لينين للشعار النضالي الصحيح، الرافعة التي حولت حزب البلاشفة لأكبر حزب جماهيري، رغم القمع والحرب والجوع والأمية والتعصب القومي. ولعل اكبر مصداق لذلك شعاره (كل السلطة للسوفيتات) ورفضه دعم سلطة كيرنسكي البرجوازية، وهو الشعار الذي جعل ثورة اكتوبر فعلاً ممكناً. وكذلك في رفضه التثاقف، رغم ثقافته الموسوعية، وربطه الفكرة بالفعل، حين أبتدأ بما العمل، وهو في الثانية والثلاثين، تطبيقاً خلاقاً لمقولته لا حركة ثورية، بدون نظرية ثورية.

وفي الوقت الذي سعت فيه الأبواق الرأسمالية ذات القدرات غير المحدودة وما تزال، إلى تشويه سمعة لينين والتعتيم على دوره في الدفاع عن آدمية البشر، بقيت تعاليمه أيقونة للنضال، لا لقدسيتها او لخلوها من الثغرات، وإنما لكونها خلاصة متميزة لمسيرة من المعارك الطبقية، قابلة لتطوير يفرضه تغير الواقع، ولتجديد يستلزمه استبدال ما يشيخ منها بما هو فاعل، وهو بالذات ما تبناه وفعله لينين نفسه مع تراث معلميه. وكم كانت روزا لوكسمبورغ رائعة وهي تصفه قائلة (كل ما يمكن أن يقدمه الحزب من شجاعة وبُعد نظر ثوري وثبات في ساعة تاريخية، قدمه لينين ورفاقه، لأن انتفاضة أكتوبر كانت بحق نصراً لشرف الاشتراكية الأممية).

في الذكرى المئوية لرحيله، أنظر بفخر للهفة الشبيبة على قراءة لينين واكتشاف برامجه الثورية. أغمض عينيّ واستعيد الإحساس بالطمأنينة، الذي لم يفارقني منذ لقائي الأول بعوالمه، في قاعة المركز الثقافي السوفيتي ببغداد، العام 1970.

عرض مقالات: